جُريرة، المنداح، السهلة.. أسماء مغمورة لمناطق جبلية شديدة الوعورة في مديرية وصاب الأسفل بمحافظة ذمار وسط اليمن. القليل من سكان تلك القرى يكاد يعرف أسماءها، لكن محمد علي يعرف تضاريسها عن ظهر قلب، إذ كانت طريقه إلى تلاميذه لأكثر من ثلاثين عاما.
بتسريحة شعر جانبية وشال أحمر منسدل على الكتف وقميص أبيض ومئزر (يسمى محليا معوز، وهو زي شعبي يمني، يتمثل في قطعة قماش تُحيط بالنصف الأسفل من الجسد)، كان المعلم الشاب يلتحق بالتدريس في مدرسة النهضة نهاية الثمانينيات.
وبتلك الهيئة، حافظ الأستاذ على حضوره الدائم حتى اليوم، لكن الأعوام الطويلة نالت منه، وبات الطريق الممتد بين الجبال لأكثر من ثلاثين كيلومترا بين منزله وأسرته، عبئا ثقيلا عليه، ومعها زادت متاعبه الصحية.
عمر طويل انقضى على معلم الصفوف الأولى، وعلى رأس كل عام دراسي، كان يستقبل أطفالا لا يملكون الجرأة على تخطي عتبة فصله الدراسي إلا رفقة آبائهم، وها هم يعودون اليوم إليه رجالا.
من على مقعده الخشبي خلف الطاولة المدرسية المتهالكة، ظل ينظر في حقول الذرة القريبة من المدرسة، وكان من العسير عليه أن يصدق كيف يمكن للزمن أن يسبب بكل ذلك الخراب في نفسه وفي التعليم أيضا.
حتى إشعار آخر
قبل أيام قليلة، كان محمد علي يزور الطبيب بعد أن تفاقمت آلامه المزمنة في المفاصل والعظام، وعاد من المدينة بأدوية كثيرة ونصائح أكثر تؤكد على ضرورة خلوده للراحة، وهو ما يعني التوقف عن الذهاب للمدرسة.
ورغم دخوله سن التقاعد، فإن الأمر يبدو مؤلما له، وهو يتخيل أنه لم يعد بإمكانه الدخول على فصله الدراسي عند الساعة الثامنة ويقطع حديث طلابه الصاخب وهم يتنازعون مقاعد الجلوس على الأرض.
لكن الهم الذي يؤرقه أكثر، هو طلابه الذين لن يجدوا معلما، فالمدرسة تعاني من قلة المعلمين، بعد أن لجأ عدد منهم إلى العمل في مهن أخرى لتأمين لقمة العيش، في ظل توقف صرف الرواتب للعام الرابع على التوالي.
يقول محمد علي للجزيرة نت، إنه مستمر في مواصلة وظيفته رغم كل ذلك، ولن يقبل أن يرى طلابه دون تعليم، فالتعليم بالنسبة له بمثابة حياة لا بد أن تستمر، وأمانة لا بد من تأديتها على أكمل وجه.
ويضيف "التعليم انهار بصورة كبيرة مع انقطاع الرواتب وغلاء المعيشة والظروف الصعبة، وبات المعلمون فئة مطحونة تماما، والكثير منهم فضلوا البحث عن مهن أخرى لتدبير شؤون حياتهم، ومن المؤسف أن يتوسل المعلم قوت يومه وأطفاله".
ويوضح أن التعليم يشهد أسوأ أيامه، مع اضطرار المعلمين للعمل في البناء والورش والحقول لتوفير لقمة العيش، بينما يدخل البعض إلى الفصل الدراسي وهو محمل بضغوط الحياة، ولذا لن يكون قادرا على توصيل المعلومة للطالب.
ويعتمد الأستاذ محمد على المساعدات المقدمة من المنظمات الدولية، إضافة إلى كونه ماهرا في تدبير يوميات حياته، ويقول للجزيرة نت -وهو يبتسم ويهز رأسه ذا الشعر الأبيض- إنه في خير كثير.
ويؤكد الأستاذ محمد على إصراره على التمسك بوظيفته رغم أن بإمكانه ملازمة منزله، ويقول "سأبقى معلما حتى إشعار آخر، وأتمنى من الله أن يمدني بالصحة والعافية لأجتاز هذه الطريق الطويلة"، في إشارة إلى الجبال التي يقطعها.
دمار الحرب
ومثله مثل بقية اليمنيين، يرى الأستاذ محمد علي أن الحرب تسببت في معضلة كبيرة في اليمن، خصوصا في مجال التعليم، ويقول إن التعليم لن يشهد تحسنا إلا بعد سنوات من التعب والجهد.
ويضيف للجزيرة نت "الآلاف من المدارس دُمرت بسبب الحرب والعدوان (في إشارة إلى التحالف السعودي الإماراتي)، كما أُغلقت المئات، وتسبب الحصار في منع وصول الكتب والأدوات المدرسية إلى الطلاب".
ويتابع "مخرجات التعليم أصبحت بالضرورة سيئة جدا، فالطالب لم يعد يحصل على حقه من التعليم، ولذا لجأ إلى الغش كحل أخير للحصول على درجات متقدمة، وهذه أكبر كارثة تهدد التعليم، إذ إن الطالب الذي يتخذ هذا الطريق يأخذ فرص غيره من الطلاب المتفوقين".
الحياة والفرحة باقية
حملت سنوات الخدمة التعليمية للأستاذ محمد علي أحوالا وقصصا كثيرة، لكنه يرى أن الفترة الممتدة بين عامي 2005 و2010 كانت الأفضل، إذ نشطت حركة الاهتمام بالمعلم من خلال الدورات التأهيلية، كما صار وضع المعلم أفضل من ناحية الرواتب.
ويقول للجزيرة نت "حملت تلك الفترة أياما جميلة، إذ كانت رواتبنا تصل بانتظام دائم، ولحظنا خلال تلك الفترة اهتماما حكوميا بالمعلم والتعليم، بالإضافة إلى فترة التسعينيات حين كنت زميلا للأستاذ محمد أحمد وهو ابن عمي بالمناسبة".
كان أولاد العم صنوان لا يفترقان وهما في الطريق أو العودة إلى المدرسة، وقبل أربعة أعوام أُصيب محمد أحمد بجلطة دماغية أقعدته عن الحركة، وبات مشلولا في منزله، الأمر الذي كان قاسيا على ابن عمه.
يقول الأستاذ محمد علي للجزيرة نت "انهار كل شيء جميل، لكننا ما نزال نتمسك بالحياة، ولحظات الفرح ما تزال باقية حين أعرف أن أحدا من طلابي صار رمزا أو حقق إنجازا، حينها أقول إن البذرة التي زرعتها أنبتت من وسط الحجر".