تناولت صحيفة الواشنطن بوست في تقرير لها وضع العمالة في السعودية، وتحدث عدد من العمال الأجانب للصحيفة عن الوضع في المملكة والدافع وراء مغادرتهم البلاد.
تقول الصحيفة أن “محمد إقبال” كان عضوا ضمن حشد من العمال الأجانب الذين اتجهوا إلى المملكة العربية السعودية خلال فترة الازدهار النفطي في سبعينيات القرن الماضي، بعد أن قام مسؤولو التوظيف من شركة “بيبسي” بزيارة وطنه الهند، وأتاحوا له فرصة في المملكة للعمل على قيادة شاحنة توصيل.
ووصل العمال من آسيا والشرق الأوسط، وكثيرا ما كان ذلك بعقود قصيرة الأجل، لإرضاء خطط التنمية الطموحة للحكومة السعودية. لكن “إقبال” بقي هناك، حيث أنجب 3 أطفال واستمر في العمل لعقود، حتى مع تغير أولويات الحكومة السعودية وتضييق الخناق على سوق العمل الأجنبي.
إلا أن التحولات الأخيرة في سياسة الحكومة أجبرت “إقبال” على التفكير في خطة بديلة، في سن الستين.
وكانت الحكومة قد فرضت رسوما على المعالين من أسر العمال المغتربين، وحظرت على الأجانب العمل في قطاعات معينة. وتسبب ارتفاع التكاليف، الذي أتى كجزء من عملية إصلاح شاملة للاقتصاد تهدف إلى جعل المملكة أقل اعتمادا على النفط، في الإضرار بالعمال الأجانب ذوي الأجور المنخفضة بشكل خاص. وكانت نتيجة ذلك هجرة جماعية للأجانب من القوى العاملة.
ويوضح ذلك الحجم الهائل للتحديات التي يواجهها ولي العهد “محمد بن سلمان” خلال محاولته إعادة تشكيل الاقتصاد السعودي. وينطوي أحد الركائز الأساسية في خطته على خلق فرص عمل للمواطنين السعوديين في القطاع الخاص، حيث يشغل الأجانب معظم الوظائف. وعلى المدى القصير، رغم ذلك، لم يملأ المواطنون السعوديون الوظائف التي غادرها المغتربون، وهو ما يزيد من الضغط على أصحاب الأعمال الذين يعانون بالفعل من الانكماش الاقتصادي.
نزوح جماعي
وبين أوائل عام 2017، والربع الثالث من العام الماضي 2018، غادر أكثر من 1.1 مليون أجنبي من القوة العاملة في المملكة، وفقا لآخر الأرقام الصادرة عن وكالة الإحصاءات الحكومية. ولم يكن هذا أول نزوح جماعي للأجانب على نطاق واسع؛ فقد غادر مئات الآلاف، أو تم ترحيلهم، بين عامي 2013 و2017. ولكن في حين كان هذا النزوح نتيجة لحملة الحكومة على الأشخاص الذين ينتهكون برنامج رعاية تأشيرات العمل، تعكس موجة النزوح الأخيرة المصاعب والقلق، المنتشرين على نطاق أوسع، بين الأجانب والمواطنين السعوديين على حد سواء.
وقد زاد الشعور بعدم اليقين في البلاد، حيث يواجه الزعماء السعوديون اقتصادا يعامي، ويكافحون من أجل جذب الاستثمار الأجنبي ومحاولة إصلاح صورة المملكة بعد مقتل الكاتب الصحفي في صحيفة واشنطن بوست “جمال خاشقجي” على يد مسؤولين سعوديين في إسطنبول قبل 4 أشهر.
وهناك دلائل على أن هذا النزوح قد فاجأ الحكومة. وفي أواخر العام الماضي، تفيد التقارير بأن المسؤولين السعوديين يفكرون في رفع أو تخفيف الرسوم المفروضة على العمال المغتربين؛ بسبب الضرر الذي تسببت فيه تلك السياسة للاقتصاد، وذلك وفقا لتقرير “بلومبرغ نيوز”. لكن المسؤولين السعوديين لم يعلنوا بعد عن أي تغيير في السياسة، ولا تزال الرسوم سارية.
وعلى المدى الطويل، يخدم هروب العمال الأجانب إحدى أولويات الحكومة الأكثر إلحاحا، وهي توفير وظائف لأكثر من نصف السعوديين الذين تقل أعمارهم عن الثلاثين. وتهدف هذه السياسة إلى منع استياء الشباب الذي أدى إلى احتجاجات في دول عربية أخرى.
لكن في الوقت الحالي، كان مصدر القلق الكبير هو ارتفاع معدل البطالة خلال العامين الماضيين، ليصل إلى 12.9%. ويجبر معدل البطالة المتنامي الحكومة على مراجعة أهدافها على المدى القصير، كما يكشف عن الفجوة بين توقعات العمال السعوديين والوظائف التي أصبحت متاحة لهم في أعمال البناء الأقل أجرا أو في البيع بالتجزئة، على سبيل المثال.
المملكة تعاني
وقالت “كارين يونغ”، الخبيرة في الاقتصاد السياسي لدول الخليج العربي في معهد “أمريكان إنتربرايز”، إنه على الرغم من أنه من الأخبار الجيدة المتمثلة في دخول المزيد من النساء السعوديات سوق العمل، لا تجد الكثيرات ممن يحملن درجات علمية عالية وظائف تتناسب مع مهاراتهن.
كما عانت بيئة الأعمال في المملكة بسبب سياسات ولي العهد الأكثر عدوانية، بما في ذلك اعتقال المئات من رجال الأعمال والمسؤولين العموميين وأعضاء العائلة المالكة خلال ما أطلقت عليه الحكومة حملة “مكافحة الفساد”. وقالت “يونغ” إن حملة القمع أفزعت المستثمرين الدوليين، ويشكو المستثمرون المحليون من عقبات جديدة لترخيص وتسجيل الشركات، ومن صعوبة الامتثال لسياسات التوظيف الجديدة التي تتطلب توظيف المواطنين السعوديين.
وأضافت “يونغ” إن تركيز الحكومة على زيادة النفقات الحكومية الرأسمالية تتماشى مع ما يقترحه العديد من الاقتصاديين لتعزيز النمو عندما يكون الاستثمار الأجنبي والاقتصاد المحلي بطيئين. “لكن هذه ليست استراتيجية مستدامة للنمو طويل الأجل. فلا يمكن للحكومة أن تعتمد على هذا الأمر كطريق للخروج إلى الأبد”.
وفي إشارة إلى أنها كانت تستجيب للمخاوف الاقتصادية، عقدت الحكومة الأسبوع الماضي مؤتمرها الثاني للاستثمار في أقل من 4 أشهر، بهدف جذب مئات الملايين من الدولارات للاستثمار في التعدين والطاقة وغيرها من الصناعات. وفي الأسبوع الماضي أيضا، أعلنت القيادة السعودية إنهاء حملة التطهير المناهضة للفساد، التي كانت سببا آخر لقلق المستثمرين.
كما روجت الحكومة لخطط لتوسيع صناعة الترفيه والسياحة، وراهنت بأن هذه المبادرات ستخلق فرصا للعمل، في الوقت الذي تراجعت فيه الصورة العامة للبلاد بسبب سياساتها القمعية.
أثر النزوح
وفي هذه الأثناء، في الأحياء والمدن، يظهر أثر النزوح على الفور. حيث المباني الفارغة، والمتاجر التي يتم إغلاقها، ويعرف الجميع تقريبا العائلات التي غادرت أو تخطط للعودة إلى أوطانها.
ويشمل أولئك الذين يغادرون أو يفكرون في القيام بذلك الرجال العازبين الذين أمضوا بضعة أعوام في المملكة العربية السعودية، وأرسلوا مدخراتهم أو أرباحهم إلى عائلاتهم في الوطن. ومع بدء المغتربين في البحث المضني عن العمل خارج المملكة، تستعد بلدانهم الأصلية لانخفاض كبير في مدفوعات التحويلات.
وكان “كريستيان لاكاب”، فلبيني الأصل، قد عمل في مدينة جدة السعودية الساحلية على مدى الأعوام الـ 7 الماضية، لكنه قال إنه قرر مغادرة المملكة بسبب ارتفاع الأسعار، والرسوم التي فرضتها الحكومة كجزء من برنامجها الاقتصادي.
وقال “لاكاب”، الذي يعمل في مطعم، إنه لم يكن لديه وظيفة في الفلبين، وكان يأمل في الذهاب إلى بلد آخر، ربما إلى كوريا الجنوبية أو كندا. وقال إنه يشك في ما إذا كان عامل سعودي سيأخذ وظيفته.
وفقد “لاكاب” وظيفته الأخيرة في شركة لأبحاث السوق اضطرت لتقليص أعمالها لمواكبة الرسوم الحكومية الجديدة. ولم يتمكن “إقبال” من العثور على عمل منذ ذلك الحين، ويخشى أن يكون عمره قد أصبح عائقا كبيرا، خاصة مع جهود “السعودة” لاستبدال العمال الأجانب لصالح المواطنين. وقال إن تكلفة المرافق والسلع الأساسية آخذة في الارتفاع. وأصبحت الرعاية الطبية أكثر تكلفة لزوجته، وهي مريضة بالسكر. ولقد غادر العديد من أصدقائه بالفعل، لذا فهي مسألة وقت فقط، كما يعتقد، قبل أن ينضم إليهم.