لا يزال المجلس الانتقالي الجنوبي متمسكاً بقبضته العسكرية على محافظتي المَهرة وحضرموت في شرق اليمن، رغم الضغوط السعودية، قائدة تحالف دعم الشرعية، لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل ديسمبر الجاري.
المشهد كان خاطفًا: قوات الانتقالي تزحف من عدن نحو حضرموت، وتقتحم مواقع المنطقة العسكرية الأولى ووادي حضرموت من دون مقاومة تُذكر. التوجيهات عبر اللاسلكي من قائد المنطقة العسكرية الأولى لقادة الألوية كانت واضحة: السماح لقوات الانتقالي بالعبور دون اعتراض.
الجنرال صالح الجعيملاني، الرجل الذي أصدر تلك الأوامر، يظل شخصية جدلية؛ قاد «اللواء الثالث للحرس الجمهوري» قبل 2011، ثم رأس قوات الحماية الرئاسية في صنعاء. في كل محطة مرّ بها، بدا وكأنه يختار «الطريق الأسهل» — طريق التسليم لا المواجهة — وكأن كتابته العسكرية دائمًا تُحاك بالحبر ذاته.
لاحقًا، غادر الجعيملاني سيئون متجهًا إلى عدن على متن مصفحة عسكرية ترافقها أطقم من قوات المجلس الانتقالي. كان المشهد رمزيًا، يذكّر اليمنيين بقيادة عسكرية اعتادت الانسحاب أكثر من القتال، «لا تطلق النار إلا حين تعود إلى الخلف»، كما قال أمل دنقل.
مع اقتحام حضرموت، سارعت الرياض بإرسال رئيس «اللجنة الخاصة» السعودية الجنرال محمد القحطاني إلى المكلا، محاولةً ضبط خيوط المشهد المتفلت وإعادة رسم خارطة تتصدع على وقع تحركات تُعيد البلاد عقودًا إلى الوراء.
عودةً بالذاكرة، التعيينات العسكرية في المنطقة الأولى العام الماضي، تحت ضغط أحد أعضاء مجلس القيادة الرئاسي، غيّرت قيادة المنطقة التي تم تعيينها في عهد الرئيس السابق عبدربه هادي. خطوة وُصفت آنذاك بمحاولة تهدئة التوتر، لكنها في الواقع فتحت الباب لانفراط واحدة من أقوى المناطق العسكرية اليمنية، التي بقيت رغم كل التحولات شريانًا رئيسيًا للقوات الحكومية في مأرب، ويرجع الفضل الكبير في هذا التماسك للواء عبدالرحمن الحليلي، القائد الأسبق الذي حافظ على البنية البشرية واللوجستية للمنطقة.
اتفاق الرياض عام 2019، الذي حمل توقيع الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي وبرعاية وليي عهد الإمارات والسعودية، منح الانتقالي شراكة رسمية في السلطة، قبل أن يتحول لاحقًا إلى أحد أقوى الأطراف نفوذًا في الحكومة. اليوم، يبدو الانتقالي عازمًا على إعادة رسم الخارطة اليمنية، بخطى ثابتة نحو واقع انفصالي فعلي، رغم التداعيات المحلية والإقليمية لهكذا خطوة.
على الضفة الأخرى، تبرز «قوات درع الوطن» كأداة تراهن عليها الرياض؛ تشكيل يتبع مباشرة لرئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، في محاولة لاستعادة حضرموت والمَهرة، وإعادة التوازن العسكري والسياسي داخل بلد تتقاذفه الاضطرابات منذ انقلاب الحوثيين عام 2014.
في تحرك رمال حضرموت والمهرة، يُعاد تشكيل المشهد اليمني، وتزداد القوى المناهضة للحوثيين تصدعاً. الرياض تضغط، والانتقالي يتشبث بما انتزعه على الأرض، فيما تتسع شهية القوى المحلية وحلفائها الإقليميين لملء كل فراغ يظهر على الطريق.
السنوات الماضية علّمتنا درسًا مهمًا: في اليمن، تُرسم خرائط الميدان قبل خرائط السياسة، وتسبق المجموعات المسلحة الدولة دائمًا.
ويبقى السؤال الذي يطرحه اليمنيون بقلق: هل تستطيع الضغوط السعودية، الراعية لاتفاق الرياض، والضغوط الغربية ، رأب الصدع داخل التحالف الحكومي ومعالجة الشروخ التي أحدثتها التطورات الأخيرة، أم أن الرمال المتحركة ستواصل رسم مشروع المجلس الانتقالي الواضح بالسيطرة على جنوب اليمن؟







