تحفل ذاكرة ثورة الـ 26 من سبتمبر المجيدة بالكثير من المواقف الخالدة لأبطال ثورة سبتمبر الذين حملوا على عاتقهم مهمة تخليص اليمن من عهود الفقر والجهل والمرض التي رزح تحت اليمنيون لمئات السنين. وفي هذه الأيام السبتمبرية الفضيلة نحاول في "رأي اليمن" قراءة تلك البطولات والتضحيات ونستعيد ذكريات من وهبوا دماءهم وشبابهم لأجل اليمن الحر المستقل، يمن الثورة والجمهورية.
إنّ بطلنا في هذه التناولة هو فارس السيف والقلم الشاعر اللواء عثمان سيف قاسم المخلافي "عثمان أبو ماهر" الذي لعب دوراً ثوريا محورياً إبان تفجير الثورة ومطاردة فلول الإمامة، فكان أحد الأبطال الميامين الذي حفظت له سجلات الثورة أدواره البطولية في ميدان الكفاح المسلح كقائد، وميدان الأدب الثوري المقاوم كشاعر وطني ملهم، وهو القائل:
سنحمل أيلـــــول فوق الرؤوس
ونعطيه أكبــــادنا والنفــوس
يمانــــــون أرواحنا ظله
بيوم الهجير وحر الشموس
ولد الثائر والشاعر عثمان أبو ماهر في العام 1941م بقرية المبيتريك، المخلاف بمديرية شرعب السلام محافظة تعز، وفي سنين طفولته الأولى درس القرآن الكريم في كُتّاب قريته ثم انتقل إلى مدينة زبيد ليواصل تعليمه، وفي العام 1955 رحل إلى مكة المكرمة والتحق بمدرسة (الفلاح). وخلال دراسته اشتغل ثائرنا بالعمل الإعلامي الثوري المناهض لحكم الإمامة في اليمن وفي تلك الفترة وقبيل تفجير ثورة 26 سبتمبر راسل الرائد (محمد الرعيني) الذي كان يعمل ضابطاً في مدينة الحديدة، وبادله الآراء في قضايا مناهضة لحكم الإمامة ولما عاد إلى اليمن سنة 1962م عن طريق الربع الخالي، حيث التقى الرائد (محمد الرعيني) وتم وضع خطة لقتل الإمام الكهنوتي (أحمد بن يحيى حميد الدين)، وأوكلت المهمة إلى الثائر عثمان أبو ماهر واثنين من زملائه وهم: (علي شويط) و(محمد أحمد المصري).
وقبل يومين من تنفيذ الخطة، ألقي القبض على (علي شويط) ورفيقه (محمد المصري) ففر إثرها الثائر أبو ماهر مختفياً إلى صديقه (محمد زين هادي هيج) في وادي مور بمحافظة الحديدة، ومكث لديه حتى قامت الثورة الجمهورية التي أطاحت بالنظام الإمامي سنة 1962م.
بعد تفجير ثورة الـ 26 من سبتمبر انطلق الثائر أبو ماهر إلى مدينة الحديدة، والتقى مجدداً بالرائد (محمد الرعيني) الذي أرسله فورًا إلى مدينة صنعاء، حيث وصل إليها، وشهد مراسيم تسليم الزعيم عبدالله السلال رئاسة مجلس قيادة الثورة، ثم كُلِّف بقيادة قطاع محور حجة العسكري لملاحقة الإمام المخلوع (محمد البدر) وفلول نظامه في جبال مديرية وشحة بمحافظة حجة إلى حرض وصولاً إلى منطقة الخَوْبَة في الحدود اليمني السعودية بمشارك اثنين من الضباط هما: (عبدالكريم الحوري) و(عبدالوهاب الحسيني).
وبعد معارك عديدة حاضها البطل السبتمبري أبو ماهر أثناء مطاردة البدر وتتبع فلول الملكيين لثلاث سنوات، التحق عام 1965م بجهاز المخابرات العامة، الذي كان يرأسه العميد (محمد عبدالواسع قاسم نعمان)، وفي نفس العام عين مديرًا لمكتب المخابرات العامة في مدينة (الراهدة) بمحافظة تعز التي كانت تفصل الشطر الشمالي عن جنوبه، ضاحية مدينة تعز، وتحمل مسئولية إمدادات الجبهة القومية لتحرير الجنوب بالمال والسلاح، حيث كانت الجبهة القومية تخوض معارك التحرير ضد المستمعر البريطاني.
وفي العام 1966م، سافر إلى موسكو للإلتحاق بأكاديمية المدرعات حيث أكمل دراسته فيها حتى العام 1969م، وعقب عودته إلى مدينة صنعاء؛ طلب منه أن يكون نائبًا لرئيس الجهاز المركزي للأمن الوطني فرفض ذلك نتيجة التغيرات التي طرأت على اهداف ثورة سبتمبر حيث لم يعد الثائر أبو ماهر يجد ذاته فيها، فاعتقل في سجن (القلعة) لثلاث سنوات بتهمة الشيوعية التي كانت رائجة وقتذاك.
وفي عام 1972م؛ خرج من سجنه، وأحيل إلى السلك المدني، وعُيّن في نفس هذا العام مديرًا عامًّا لمكتب وزير الخدمة المدنية، ثم أعيد تعيينه في نفس العام مديرًا عامًّا لمكتب وزير الثقافة حتى سنة 1975م, وفي عهد الرئيس (إبراهيم الحمدي) عُيّن مديرًا عامًّا للمصنفات الفنية في وزارة الثقافة، ورئيسًا للجنة النصوص, وفي عام 1980 عُيّن مديرًا عامًّا للإعلام الداخلي والخارجي، ثم عُيّن سنة 1988م ملحقًا إعلاميًّا بدرجة وكيل وزارة في السفارة اليمنية في الرياض، وفي سنة 1992م عُيّن مستشارًا لوزارة الإعلام، وأعيد تعيينه في نفس المنصب سنة 2003م بدرجة وزير.
لم يحمل الثائر عثمان أبو ماهر بندقيته فقط ضد الحكم الكهنوتي، بل كان لقلمه صولات وجولات في التغني بالوطن والذود عن حياض الأمة اليمنية، لقد نظَم أبو ماهر اليمن تاريخاً وحضارة شعراً خالداً، وموْسَقها لحناً تتغنى به الأجيال، فغنى له العديد من المطربين اليمنيين؛ منهم: (أيوب طارش عبسي)، (أحمد بن أحمد قاسم)، (عبده إبراهيم الصبري)، (محمد حمود الحارثي) و(عمر غلاب) وهو الذي كتب كلمات نشيد (القسَم) الذي تغنى به الفنان الكبير أحمد المعطري:
يمينًا بمجدك يا موطني ... ويا مهد كل فتىً مؤمن
سأمضي على الدرب لا أنحني ...ولن أتوانى ولن أنثني
أنا الثائر الحرُّ رمز النضــالْ .. وجندي بلادي ليوم القتــــالْ
شربت المنايا كشرب الــزلالْ ... وتوجت بالنصر هام التــــلالْ
وحدثني الصخر عند الصمـود .. لك الله فاصمد صمود الجبــالْ
سنون مضت كان ظني بهــا .. مماتًا فكانت حـيـاة الكــرامْ
وجاء السلام. سلام الختــامْ ... تمخض عن حربنا والحمـــامْ
وها أنا أبني ليحيا أخـــي ... ويحيا البنون بظل الســــلامْ
مضينا على درب أيلولنــا ....يقـود خطانا الإخا والوئـــامْ
فرشنا الدروب بأرواحنــا .... وسرنا على هديها للأمــــامْ
ومن القصائد الوطنية التي تصنع ألف مقاتل وألف ألف سبتمبري قصيدة (أنت يا أيلول فجري) التي تغني بها حنجرة الوطن أيوب طارش عبسي :
يا نسيمًا عابقًا كالزهَر
طيب الأنفاس عند السحر
يا جلال الحق صوت القدر
يا وثوب الشعب في سبتمبر
اسقني عدلاً وغذِّي عُمُري
في سلام الثائر المنتصرِ
مولدي أنتَ ونور البصرِ
ووميضٌ في دمي المُستعرٍ
ذكرياتي عِبرًا سطرتها
فوق هامات جبال العِبرِ
أنت يا أيلول فجري
بدمي سجَّلت تاريخي وفخري
فاخصبي يا أمُّ يا خضراء
ها أنا فجَّرت نهري
لا تسلني لا تقل ماذا جرى
فطموح الشعب حكم القدر
جدد العزم وسر في دربنا
يا شباباً من سنا سبتمبر
..........................
يا سطورًا من دماء الشهداء
يا ضياءً في طريق الأوفياءِ
يا نشيدًا في قلوب الشرفاء
يا تراب الأرض يا كلَّ سنائي
........................
لك روحي كله يا يمني
لك جهدي في سباق الزمنِ
أنا شدو في لسان المؤمنِ
أنا نبض في ضمير الوطنِ
وقد عُرف الثائر عثمان أبوماهر بنزعته الثورية وحنينه لتاريخ اليمن التليد وحضارته الضاربة في أطناب التاريخ سبأ وحمير وارتباطه بهما وكان دائم التغني بهما والسارد لأمجادهما حيث شكّل منه ذلك الانتماء الروحي والوجداني مقاتلا قويا ومدافعا شرسا عن ثورته وجمهوريته، إذ يقول في إحدى قصائده:
يامعبد الشمس كم لك محتجب واحبيب
قلي متى بعد ماقاسيت شوق الغريب!
تعود شمس الحضارة منك بعد المغيب
والسمر يحيين من حولك رنين الحجول
بشراك يامأرب الأمجاد عدنا وعاد
يهدي لك الخير نجل الأقوياء الشداد
يبني ويزرع غروس البن في كل واد
لا بد ماتلتقي فيه الفروع بالأصول
شواصل السير ياتاريخ سجل مسير
واكتب على صفحة الأيام حرف المصير
واشهد مع الكون فردوس الاماني الخضير
هذي بلادي وانا فلاحها والبتول
وفي قصيدته (قُبله) يلخص الثائر السبتمبري أبو ماهر شخصيته المحبة لوطنه وأمته اليمينة :
قبلت جبهتك العريضة ألف مرة
وشممت فيها الحب .. حبك ما أمرّه
وبكيت بين يديك أرقت دمي... لحبك ألف كرة
وعصرت كل حصاك بين ضلوعي العطشى ... يا صنعاء خمرة
بالأمس كانت ريحة البارود أنفاسي
وكانت لغتي رصاصات البنادق ...لتعيشي ألف مرة
من أجل أن نحيا في ظلال الحب والأخلاق
في المزارع والمصانع والعرق الذي تزدان فيه الجبهة الشماء
أقبلها وأرضع ثديها ظلاً وخضرة
من أجل ان أحيا صباح العدل فوق الدرب سائر
والطل يهدي للربى في وقعه نغمات شاعر
من أجل أن تتربع الأعماق ربات الظفائر
من أجل أن يحيا طموحي يماني اللحن ثائر
يا سكرة الحب الذي لا ينتهي
أهواه من قلبي وأطمع ألف سكرة
لقد دوّن أبو ماهر قصّة ثائرٍ لا يشق له غبار، وشاعرٍ ذاب لحنا في ثورته السبتمبرية ووطنه المفدى، قصة نضال من شرب المنايا كشرب الزلال وتوّج هام جبال اليمن الجمهوري بالنصر المؤزر على نظام كهنوتي استعبادي جثم على صدر اليمنيين قرون من الزمن.
دوّن ثائرنا أبو ماهر تاريخه كبطل سبتمبري وشاعر جمهوري تغنى باليمن أرضا وإنساناً، بطلا حمْيريا سبئيا استقى شموخه من قصر غمدان وشجاعته من شمر يهرعش وعراقته من معبد الشمس .
انتقل إلى رحاب الله ثائرنا البطل في 20 يناير 2013 بعد حياة ثورية أدبية حافلة..