بروكسل هي عصارة تقاطعات زمنية ولغوية وعرقية. انها الروح المختلطة. إذا لا معنى للنقاء.
كانت الأجواء باردة وغلالة سميكة من الضباب قد اسدلت على المدينة. برد وعطونة يختلطان بروائح عديدة متنافرة بين أطعمة الشرق و"صورايخ القُنّب" ذات الرائحة الترابية اللاذعة، وزوايا التبول حول محيط محطة ميدي.
كان لا بد من اللوذ الى مقصف طلباً للدفء.
...
الكراسي الجلدية السوداء متقاربة ومتراصة كمقصورات القطار. على المقصف سيدة في منتصف العمر أوروبية شرقية السحنة. انها برانسيس ذات الشعر القصير.
اجلس الى جوار صديقي أنعم قرب باب البار يحتل كل منا طاولة صغيرة. بعدنا بكرسيين يجلس بلجيكي فلاموني اللغة يضع على رأسه سماعة بيضاء.
مقابلنا يجلس بوجه الباب عجوز افريقي ضخم الهيئة مغلقاً عينيه.
قبل انتصاف الليل، دخل شابان عربيان يتباريان في الحديث. قال أحدهما للآخر. أنا أشرب كل شيء. اعطني بنزين وسأشربه. ثم طلبا قهوة وخرجا الى الباب لشربها مع تدخين السجائر.
...
الفلاموني ينادي النادلة ولم تسمعه.
فتح العجوز عينيه، ورفع صوته فأقتربت منه النادلة: نعم بابي. تناديه النادلة ب بابي؛ أي جدي.
اسمعي طلب الزبون!
...
احضرت للفلاموني قدحاً كبيرا من البيرة عمبرية اللون بلجيكية.
كان الفلاموني وَرِشاً يغني ويتحدث بلكنة فرنسية مكسّرة.
قال بلسان مسترخٍ: هذا طبعي. لا أستطيع إلا الحديث والضحك وتبادل النكات مع الآخرين. هذا أمر جيد.
...
بينما انا وصديقي نقلب دفاتر الايام ووجوه اصدقاء المنفى والشتات والغياب القسري، افتتح الفلاموني الحديث العالي وتبادل السمر مع العجوز. فاذا بهما يصلان إلى التاريخ.
وجدتنا منخرطين في الحديث مع العجوز والفلاموني. يقول العجوز ان امريكا انخرطت في الحرب العالمية الأولى في أوروبا وارسلت قوات بشرية كانت حاسمة في تغيير مسار المعركة. لكن الحدث لم يأخذ تغطية كبيرة على عكس مشاركتها في الحرب العالمية الثانية.
بينما يتلكأ الفلاموني مشددا ان امريكا لم تدخل اوروبا الا في الحرب العالمية الثانية. على إصرار من العجوز، اسرعتُ في تصفّح جوجل وبالفعل كان العجوز محقاً.
شرع الفلاموني في جمع اشيائه وقرر المغادرة. بفرنستيه تلك: ليلة سعيدة!
...
الحديث عن التاريخ يثير حساسية بين المتحدث والمتلقي خصوصاً إذا كان احدهما أوروبياً والآخر أفريقي.
علّق عجوزنا: لا يفقه تاريخيه ولا يريد أن يفقه.
لفت انتباهنا هذا التعليق وطلبت من صديقي الانضمام الى طاولة العجوز. لقد تغير برنامج السهر.
- هل يمكننا الجلوس اليك؟
- نعم تفضلا.
قبل ان ننضم اليه كان حديثه مع الفلاموني قد قاده الى التأكيد انه هنا في بلجيكا منذ حولي اربعين سنة. وهي ربما سنون عمر الفلاموني.
يجلس مستندا الى الكرسي وما تزال برنيطته على رأسه
مرحباً سيدي. نحن ايضا ندعي معرفة بالتاريخ لكننا تعملنا منك شيئا جديداً.
نحن قادمون من باريس لكن اصولنا عربية.
يؤسفني ما يحدث في بلدانكم. يؤسفني ما يحدث في فلسطين.
...
عرفناه باسمينا وعرفنا باسمه: اسمي
Pierre Evariste Dieudonné MANDJEKU LENGO
أو لليسر ديززي DIZZY
كونجولي من مواليد كينشاسا في العام 1946. عازف جيتار محترف.
أخرجتُ هاتفي مجددا وفتحت النوت وقررت كتابة اسمه.
بدأ يذكر لنا أسماء الفرق التي عمل فيها لتكون الأهم L'African All Stars
اعترف ان ثقافتي الموسيقية ضئيلة. فهذا يفسد الحوار مع رجل صمت طوبلاً ولن يتكلم الا لدافع ومحفّز. صديقي أكثر اضطلاعا بالموسيقا والموسيقا الافريقية والعالمية.
كان الحديث طواف في الأسماء:
l’Afrisa International، Ok Jaz، Odemba ، Fiesta
والألوان:
بلوز، روك، جاز، كوسا.
قال ان ظهوره الأخير كان مع الشاب النجم ستروماي في بابااوتيه الذي اتصل به ليشركه في عمل موسيقي. هو معجب بطاقة هذا الشاب.
تظاهرنا بعدم التصديق من الدهشة، ففتح هاتفة وعرض علينا صوره القديمة وصوره مع النجوم.
تعود اليه النادلة.
تقدم له برانسيس عصيرا في زجاجه وكأساً فارغة.
سالتُه : لماذا لا تشرب الكحول. يجيب: لقد اسرفت في حياتي الماضية وشربت لخمسين عاماً وأكثر. ثم ضحك.
هو كنغولي طاف العالم في مجموعات موسيقية. عزف في كل القارات وذهب الي اليابان. يعيش في ارض من احتلوا بلاده لزمن ويتنكرون للتاريخ كما يقول.
ينوه الى الذاكرة الانتقائية. ويجلس كحارس أخير للمعبد يرفض العبث بالذاكرة.
درس العلوم الانسانية وتخصص في الاقتصاد لكن حبه الكبير للموسيقا دفعه الى احترافها على حساب اي حياة اخرى.
شهد الاحتلال والاستقلال وحروب ما بعد الاستقلال. الاغتيالات البشعة وتوق افريقيا الى حرية وعدالة.
تتقد ذاكرته بالأسماء والمواعيد والأحداث.
بعد حياة نجومية وميداليات وتكريم وأسفار ومطاردات. غادره رفاقه باكراً أو تأخروا. فرّقت بينهم السبل وتشعبت بهم المذاهب والسياسة. ها هو يجلس بصمت على كرسي جلدي أسود في بار منسي قرب محطة قطار البهجة.
نلتقط له صورة وصورة أخرى لي معه. ونودعه ونحن لم نفق من المصادفة ومن تقلبات الأيام.
....
*من صفحة الكاتب على فيسبوك