"هنا لندن" عبارة لطالما كانت تشدني أيام الصبا وهي تنبعث من مذياع صغيرٍ متهالك، ويملأ صداها فضاء قريتنا الصغيرة في أقاصي ريفنا اليمني الجميل
وعلى دقات ساعة بيج بن الشهيرة وأصوات مذيعي البي بي سي كان عدد من سكان قريتنا يرتشفون قهوتهم الصباحية ضمن طقوسهم اليومية استعداداً لانتشارهم الكبير في الحقول والمدرجات الزراعية
وفي الطرقات كانوا يتحدثوا عن الأحداث العالمية كتحقيق الوحدة اليمنية وغزو الكويت والانتخابات وحرب 94 والانتفاضة الفلسطينية ولفتني ذات مرة كيف استفزهم تصنيف المذيع لحزب الإصلاح اليمني بالحزب الإسلامي وهم يرددون بتعجب شديد " كلنا شعب مسلم ما فيش بيننا كفار كيف إسلامي والبقية أيش هم"
وما إن التحقت بالمدرسة ووصلت الإعدادية إلا وكانت جماعة الصحافة اختياراي الوحيد وفي الثانوية دمجت تحت مسمى السياسة والإعلام فكان بريقها أشد جاذبية
كم كنا نحتفي بالمنشورات والقصاصات الصحفية ونحن في قرانا الريفية التي لا تصلها الصحف وإذا وصلت فتصل متأخر ومع ذلك نحتفي بها رغم اخبارها البايتة
وعندما انتقلت للعيش في العاصمة صنعاء بعد الثانوية كانت أكشاك الصحافة وجهت يومية وغالبا ما كنت احرص على شراء الصحف والمجلات كحاجة أساسية كالأكل والشرب وكنت استمتع بقراءة مقالات وتحليلات لكتاب بعينهم تماماً كما استمتع بالأكل والشرب
في الجامعة وفي غمرة الحماس الطلابي شاركت في انتخابات النقابة الطلابية واشبعت رغبتي بإدارة لجنة الإعلام والثقافة والجمعية الفلسفية في جامعة صنعاء وكافحت وفريق العمل وبشكل طوعي وجهد شخصي في إصدار صحيفة طلابية ونشرة أخبار صباحية يومية كانت تُعلق على جدار الكلية ورغم الصعوبات وقلة ما في اليد كان العمل ممتعا بفضل فريق العمل المتفاني والجاد
كشك الصحف في بوابة جامعة صنعاء كان الوجهة المحببة وزيارته قد تتكرر في اليوم الواحد لأكثر من ثلاث مرات وفيه فقدت هاتفي المحمول حيث استغل اللص اندماجي في تصفح أخبار القبض على الرئيس العراقي الراحل صدام حسين وتسللت يده إلى جيبي وكانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي أفقد فيها هاتفي
هكذا كنت اركض واشد الخطى نحو صاحبة الجلالة وتشدني أخبارها وأخبار أعضائها وانشطتهم
واتذكر جيدا أول زيارة لمكتب صحيفة ما في صنعاء والجلوس مع جمع من الصحفيين لعرض قضايانا الطلابية وهم يتبادلون الأحاديث والبطولات وكل واحد منهم يعتبر ما كتبه أنه الحدث الأهم وذاك يقول إن القضية التي أثارها هي حدث الساعة وثالث يتوعد مسؤول ما بمقالٍ مزلزل في العدد القادم
وتنقلوا في جلستهم تلك من حدث إلى آخر وبدت لي الكرة الأرضية يومها وكأنها مشرحة على الطاولة التي أمامنا وكلما ازداد تناول القات كلما اشتد النقاش واحتد وقبل نهاية الجلسة بدء النقاش ينحسر شيئاً فشيئا وتحسس المتحمسون جيوبهم والتفت بعضهم لبعض وكأنهم يتحدثون لغة خاصة بهم وعند البوابة وقعت عيني على أحدهم وهو يهمس في أذن سكرتير التحرير يطلب منه خمسين ريال أجرة للباص
التحقت بكلية الإعلام لدراسة الماجستير وإشباع رغبتي كون البكالوريوس فلسفة، وكانت المحاضرات في الفترة المسائية ووصل المحاضر الأول وهو يمضغ القات وفي يده قنينة مخلوط فيها كولا وشعير وزنجبيل ويده الأخرى تعزز فمه بأوراق القات وأغلب محاضرته سب ولعن وانتقادات وفي اليوم الثاني كان المحاضر عراقياً انتهت المحاضرة وهو عالق في أطلال العراق يتغنى بأمجاده ووحدها الدكتورة المرحومة رؤوفة حسن التي كانت محاضرتها في المقرر من بدايتها إلى نهايتها
وعندما بدأت العمل في مجال الإعلام اتضحت لي الصورة أكثر ورأيت تحليق عدداً من منسوبيك يا صاحبة الجلالة على الوزراء والمسؤولين عقب كل فعالية أو مؤتمر صحفي للحصول على فتات ولسان حالهم تدفع وإلا لن يسرك ما ننشر وسمعت المسئولين وهم يضحكون بسخرية ويقولون صحفي أبو ألف أو أبو ألفين!!
قال لي صديق يعمل منذ نحو ربع قرن في الصحافة هذه مهنة المدعين
كشفت وسائل التواصل الاجتماعي عدد من المدعين ومزقت أقنعتهم وجعلتهم مكشوفين بثقافتهم الضحلة ونزقهم وردود فعلهم المتسرعة وتقلباتهم المفضوحة
وكشفت الأحداث والأزمات والحروب قبح الكثير من المدعيين وقفزهم على تضحيات الشعوب ودمائهم وأشلائهم وتنكرهم لقضايا أوطانهم التي لا تقبل النقاش والمساومة وتحويلهم القضايا الوطنية إلى وسيلة للمتاجرة والتكسب
باختصار شديد بلاطك يا صاحبة الجلالة متسخ وتزيده الأزمات والأحداث الكبرى اتساخاً ويضطر البعض للسير فيه على رؤوس أصابع أقدامهم مخافة الانزلاق..