حبَاني الله بمعرفة اليمن عن قرب، بحكم عمل والدي الدبلوماسي في صنعاء، إلا أن البلد الذي تعرَّفتُ إليه، وما زلت متيقنًا بوجوده، هو غير البلد الذي انتهى به الحال إلى ما هو عليه اليوم. فاليمن ليس دمارًا ودمًا، ولا أهله دعاة عنف وعَداء.
بوصفي كويتيًّا، أرى اليمن الذي أعْرِف طيفه، متناغمًا متنوعًا، يحتفي بالاختلاف الديني والعرقي والقبَلي، ويَنعم بالحُلم والانشراح. شعبٌ مسالم بَشُوش، قنوع بالقليل، طموح إلى الكثير، يتوق إلى مستقبل أجمل يليق بتطلعات أجداده، الذين: {جابُوا الصَّخْر بالوَادِ}، واستوطنوا الكثير من البلاد.
من ينسى سوق المُلَح الذي له من اسمه نصيب؟ فهو جوهرة المدينة العتيقة، تجد في طياته خلاصة الزمن وروحه الأصيل، مطرز بتفاصيل السوق العربي الزاخر بكل قديم وجديد. ومن تغفل عيناه عن ألوان الحياة؟ ملابس ملونة، و”جنابي” مزيّنة، و”غتر” مجوَّدة، و”مشاقر” مزركشة، وأعراس مبهجة! تعلمتُ في صنعاء حب الناس كل الناس وحب الحياة، واكتشفتُ لكَنات الناس المميزة في نطق أواخر الحروف، لمعرفتهم ما في بواطن النفوس. أيضًا شهدتُ استقبال صنعاء لمرتحلين/ات شتَّى، لاذوا بالفرار من شظف العيش وجَور الإخوة في بعض بلدان الجوار. فلا أنسى صديق الوالد (العم عمر) رحمه الله، المُعارض الصومالي الذي لجأ إلى اليمن في عسرته، إلى أن تبدَّلَت ظروف الحياة، وتقلَّد منصب نائب الرئيس في بلده. هذا اليمن طَوق نجاة، وحِضن للمحتاج، وأمان للمرتاب.
عند ذكر اليمن، يتصاعد وقع “الدَّان” وحفلات الشعر ذات الأشجان. أتذكَّر جلسات العصر والغناء العدني والحضرمي. وتَحضر في البال الخالة “فطوم” صديقة الوالدة، وأكلاتها المعجونة بالحب والوفاء. كنتُ أتطلع إلى السماء لِأُعانقها من على سفح جبال شاهقة كلها كبرياء، وأتذكر مهد التاريخ في “مأرب” و”تَعِزّ” و”إب”، وتسلُّق الأطفال المدهش لأعمدة عرش بلقيس المتربعة على ناصية التاريخ. “يمَنُ” العلم بقاماته السامقة، مثل: نشوان الحميري، والصنعاني، والشوكاني، وغيرهم كثير. “يمَنُ” الأحبة والصوفية الحقة والتراث الديني العريق في “تريم” وحواضرها. أشتمّ عبق البُنّ الحرازي والبخور العدني، وأُحلِّي طعامي بالعسل “الدوعني”. أتذكر ذلك كله اليوم، ثم أفتقده في نشرات الأخبار اليومية، التي تأتي محملة بأخبار الخراب والدمار. لا أرى الألوان والبهجة، إذ جرى اختزال اليمن وثقافته في الحرب، وغدا أبناؤه مَنسيِّين مَنفيِّين في بلدهم وخارجه. مع ذلك، ظل هذا الشعب محافِظًا على ثقافته وطيبته وأصالته.
ابتعدتُ عن اليمن مدة طويلة، ثم عدت إليه زائرًا. وفي الطائرة التي أقلَّتني إلى صنعاء، انهالت علي الدعوات ممن رافقوني في الطائرة. دعوات لبَّيتها بكل سرور، تؤكد أن لا غرباء بين الأهل في اليمن الحبيب. فاليمني صديقك منذ أول لقاء. هذا البلد الجميل، المهدد يومًا بعد يوم بالصراعات والحروب، عانى مرارة التشرذم؛ عندما أضاع الكثير من أهله مفاتيح السلام، واستبدلوها بأبواب مؤصدة على بعضهم، حتى تداعى ما تبقَّى منها في الداخل والخارج.
لكُم يا أبناء اليمن، أهلٌ وعُزْوَة في شتى أنحاء العالم. فلم ولن ننساكم في محنتكم، وسنؤازركم قولًا وفعلًا حتى يلتمَّ الشمل ونرسو على شواطئ الشوق مجددًا، في المكلا وعدن والمخاء والحديدة، ولنحتفل بفجر المجيء، ونُحيي جلسات الثقافة والسَّمَر من جديد.
سيظل اليمن حاضرًا على الدوام في الزمن والذاكرة، وستظل مدينة “سام” حية لا تموت. ستبقى “إِرَمُ” ذات العماد، وستعود روح سبأ وجِنانها، وبلقيس وحكمتها، وسيغدو يمن الغد “بلدة طيِّبة”. فحضارته -وإن كسَتْها الحرب- ستُبعَث من جديد، لتُعلِن ميلاد يمن السلام في قادم الأيام.