يتفرّد اليمني عمّن سواه في هذا الكوكب، بلعن ماضيه وتشنيعه، وشيطنة عناصر حركيّته، وتحويل أية بقعة ضوء في جدار تأريخه الطويل إلى صريم مُعتم، سواء أكان ذلك الماضي حدثاً تأريخياً مشهوداً أو عنصراً بشرياً حاول تغيير الواقع وكسر حالة الجمود.
هذا القول ليس رجما بالغيب، دون دليل، علينا فقط استرجاع حدثين من تاريخنا اليمني، البعيد والقريب؛ على سبيل المثال، ثورة اليمنيين الحقوقية ضد الفرس والإتاوات المفروضة عليهم في القرن السابع الميلادي لاقت قبولاً مجتمعيا والتفافاً شعبيا كبيراً، إلا أنه تم شيطنتها وتحوير مسارها التحرري من خلال شيطنة أحد قادتها وهو القيل عبهلة العنسي دون غيره من القادة الذين شاركوه ثورته وظلوا على قيد الحياة، حتى أصبحت تلك الحركة كُفر و ردّة، وأحد قادتها متنبّي ملعون وزنديق، وعلى لسان اليمنيين قبل غيرهم..!! كذلك الأمر، فإن الثائر الفقيه سعيد بن ياسين العنسي الذي ثار من أجل أوجاع شعبه ولاقى التفاف شعبي عارم، ظلّ يوصف بعد مقتله صلْباً بـ "سعيد اليهودي" ولايزال يوصف بذلك على الألسن إلى يوم هذا..!!
في الذكرى التاسعة لثورة الـ 11 من فبراير المجيدة، الثورة التي خرج الشعب اليمني مُلتفّاً حول ذاته من أجل حقه في التغيير نحو الأفضل، هنالك من لايزال يسعى لتحميلها كل الأخطاء السياسية الكارثية وعواقبها المدمرة التي أتت بعد احتلال المليشيات الهاشمية لصنعاء عام 2014م، وتسببها في نشوب هذه الحرب، بذريعة أنها شاركت في الثورة ويتحمل ثوار فبراير كارثة مشاركتها التي أدت إلى انقلابها على الدولة وسيطرتها عليها.
وحتى لا تُحسب هذه المليشيات الإرهابية على ثورة الشعب اليمني النقية الناصعة، ينبغي علينا قراءة المشهد السياسي والعسكري اليمني من كآفة الزوايا، بواقعية مُنصفة وتجرّد تام، وإذا ما فعلنا ذلك فإننا سنخلص إلى حقائق جليّة تنفي انتماء تلك المليشيات لثورة الشعب السلمية:
أولاً: منذ أن تسلل علي صالح إلى سدة الحكم أواخر السبعينات جعل من اللوبي الهاشمي (التنظيم السري) أداة من أدوات حكمه المتناقضة، واستمر في استخدامهم حتى قُبيل مقتله ؛ واستمروا هم أيضاً باستغلاله حتى احتلال صنعاء وإسقاط الجمهورية.
ثانياً: خلال حرب صعدة ، لم تكن تلك الحرب، وفق الحقائق التي تكشّفت فيما بعد، إلا تبادل منافع بين علي صالح كنظام حاكم والحركة الحوثية الهاشمية، إذ كان صالح يريد تحقيق أهدافه وأجندته الخاصة من جملة صراعاته الأسرية السنحانية ومع قبائل الطوق ككل، وقد حقق بعض أهدافه في إضعاف بعض القوى القبلية والعسكرية التي كان يخشى مناهضتها لعملية التوريث ، في المقابل استفادت الحركة الحوثية الهاشمية من تلك الحروب في تسليح نفسها من معسكرات علي صالح وعسكرة المجتمع الصعدي وتحويله إلى جيش عقائدي سيُستخدم فيما بعد لتحقيق الحلم الهاشمي المنشود باستعادة سيطرتهم على الدولة والانتقام من النظام الجمهوري الذي أضعفهم ولم يجتثهم اجتثاثا تاما.
ثالثا: مع انطلاق ثورة فبراير الشعبية ، حرَّك علي صالح "اللوبي الهاشمي" وجناحه العسكري المتمثل بالحركة الحوثية ومتنفذي المؤتمر المنخرطين في صفوفه ، فاندفعت هذه المليشيات إلى الساحات ككتلة متماسكة، متناسقة، أشبه ما تكون بالكتائب المنظمة، ومن كان يحضر ساحة التغيير في صنعاء إبان الثورة سيتذكر كيف كانت مخيماتها مغلقة على نفسها بشكل مغاير لكل الخيام والتجمعات الشعبية التي كانت تشكّل مزيجاً من كل التيارات والمشارب الفكرية والسياسية.
هذا التكتُّل الانغلاقي المدفوع إلى ساحات الثورة الشعبية يدحض الإدعاء القائل أن هذه المليشيات شاركت في ثورة فبراير، وأنّ الثوار فتحوا لها الساحات، والحقيقة أن وجودها كان له مغزيين ، الأول محاولة شق الصف الثوري بافتعال مناوشات مع شباب الثورة حول المنصة والتحكم بها وهذا العمل كان يصب في صالح سلطة علي صالح، بينما كان المغزى الثاني -وهو الأخطر - تحويل ساحة التغيير إلى نقطة جذب تنظيمية مليشياوية لتنفيذ مشروعها السلالي المُرتقب، وقد نجحت في اجتذاب الكثير من اليساريين وغيرهم الذين هم اليوم بيادق وأبواق لمشروعها السلالي.
رابعاً: خلال ثورة فبراير، كان علي البخيتي أحد الوجوه الاعلامية البارزة للمليشيات الحوثية الهاشمية، وبعد انقشاع الدخان الذي كان يحجب الرؤية عن طبيعة وجود البخيتي تبيّن أنه لم يكن سوى "وسيم" الذي زرعته الأجهزة المخابراتية في صفوف المليشيات ومن ثم في صفوف ثورة فبراير، ومن منا لم يعد يعرف بخيتي اليوم !؟
الخلاصة التي علينا استيعابها كحقيقة، هي أن الحركة الحوثية الهاشمية الدخيلة لم تشارك أبداً في ثورة فبراير، أو تندمج مع ثوارها، فهي لم تندمج بالمجتمع اليمني منذ ألف سنة، بل كانت تقوم بلعب أدوار منوطة بها، أما فبراير العظيم فلم يكن يوما ليقبل بالمليشيات السلالية، وليس من الإنصاف تحميل ثورة شبابية سلمية أخطاء الأحزاب المتسلقة أو أحقاد النظام السياسي الذي هدد بهدم المعبد على رؤوس الجميع، وها قد فعل..!!