"إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية .. فالأجدر بنا أن نغير المدافعين .. لا أن نغير القضية"
غسان كنفاني
قبل الحديث عن دور الجاليات علينا التساؤل عن دور الجهات الرسمية في التعريف والتوضيح والشرح والتفسير للعالم عن كل ما يدور في اليمن، فإذا كان هذا الواجب مجرد دور تقوم به الجاليات فإنه وظيفة أساسية تؤديها الجهات المسؤولة -الخارجية والسفارات - ومع ذلك يجب أن يكون هناك نوع من التعاون والتكامل للقيام بهذا الواجب الوطني في كل المراحل وهذه المرحلة الحرجة بالذات.
ولكن قبل الذهاب للحديث عن هذا الدور التعريفي للقضية اليمنية علينا التوقف عند محطة يمنية عظيمة هي مرحلة الاستقلال ورحيل قوى الاحتلال في الثلاثين من نوفمبر عام 1967، حينما ابتدأت عملية جديدة من مراحل الثورة اليمنية 14 أكتوبر، وهي مرحلة البناء وفقاً لمقتضيات الحالة الراهنة، حينما ذهبت الجبهة القومية لإرساء دعائم الدولة اليمنية في الشطر الجنوبي من الوطن، كان الواقع العربي يمر بمرحلة تمزق لا نقول أنها تشبه حالة الضياع التي نمر بها اليوم 100% ولكنها شبيهة بها بنسبة معينة؛ مرحلة ثورات وصراع عربي إسرائيلي وهزيمة عربية سميت نكسة للتخفيف اللفظي، كما أن الواقع الدولي كان أيضاً يمر بمرحلة حرب باردة واستقطاب .. مرحلة الاستقطاب تلك وضعت اليمن بشطريها في وضع سيء، كان دور مصر على وشك الانتهاء ليأتي دور السعودية، وجود الدور السعودي حينها لم يكن العامل الوحيد لاستمرار الانفصال الذي صنعته بريطانيا وخرائطها لتقسيم المنطقة، ومع أن الثورة اليمنية 26 سبتمبر و14 أكتوبر نصت في أهدافها على الوحدة الوطنية بين شطري اليمن، لكن الواقع لم يكن ملائماً لذلك.
خلال المراحل التالية كان شطري اليمن ضمنياً الشمال مع الرأسمالية والجنوب مع الشيوعية، ولم يسلم الشعب اليمني من هذا التشظي المؤدلج، "وارحبي يا جنازة لا فوق الأموات" وانتقلت من الحرب الجهوية بين اليمنيين في المناطق الوسطى وعلى الحدود إلى عمق القارة الاسيوية، فلقد ذهبوا في نزهة إلى أفغانستان بعد أن دخلها السوفييت بالجيش الأربعين في 25 ديسمبر 1979، ذهب المجاهدون (في سبيل الله) من الشمال عبر السعودية ليواجهوا إخوانهم المناضلين الاشتراكيين من الجنوب هناك في قندهار، وهذه ليست علامة بارزة لتلك المرحلة لكنها تصلح للدلالة على مرحلة سيئة من مراحل التشطير والتشظي.
الظروف المحلية والإقليمية والدولية لا تساعد على البناء والتنمية لا في تلك المرحلة ولا في هذه المرحلة ولن تكون كذلك في المرحلة القادمة، صراع المصالح والشركات والقوى المتصارعة لن تتوقف، ومع صحة ما ذهب إليه اليسار بشكل عام من توحيد الشطر الجنوبي بإرساء مؤسسات الدولة، إلا أنه لم يصل لمرحلة الاستقلال وكانت التبعية هي الصفة البارزة، مع صحة الفكرة اليمنية التي ذهب إليها اليسار كميراث اكتسبه من الحركة الوطنية في عشرينيات القرن الماضي. وكذلك الحال في الشطر الشمالي كانت التبعية بشكل أخر، حيث كان هذا الجزء من الوطن مجرد حديقة خلفية للسعودية، والسعودية تابعة للرأسمالية.
وما أن أتت الفرصة اليمنية في غفلة من الزمن البائس تمت الوحدة كهدف للثورة اليمنية وتضحيات الشعب اليمني، ولم تأت من فراغ بل عبر سلسة من الاتفاقيات التي رعتها تعز وعدن وصنعاء وقعطبة، ورعتها عواصم العرب من الكويت إلى طرابلس مروراً بالقاهرة. كان يومها المعسكر الشرقي في انهيار والسعودية والخليج وكل العرب مشغولين بحرب الخليج بعد غزو العراق للكويت. وعندما تفرغت السعودية والخليج كانت حرب 1994 لإعادة خارطة بريطانيا لوضعها السابق في اليمن، لكن ذلك لم يحدث ولم يقبل الشعب هذه الفكرة، فاستمرت الحال إلى أن أتى التحالف ليُعيد فكرة التشطير والتقسيم والجهوية والطائفية والجهوية إلى الواجهة.
*كيف نعرف القضية اليمنية؟
من يريد التعريف بالقضية اليمنية عليه أن يؤمن بهدف عام لا بهدف خاص، وبحق عام يخص اليوم ما يقرب من 30 مليون مواطن في الداخل ، نصفهم - أو ينقص قليلاً - في الخارج وفي أضعاف مضاعفة من كل هذه الأرقام من محبي اليمن ممن ينتمون لليمن تاريخياً واثنياً وقومياً وثقافياً وحضارياً، وهذا يعني الإيمان بهدف يخص كل الأمة اليمنية.
هذا الهدف العام تتمحور حوله العديد من الأهداف الفرعية التي تسانده. عليه أن ينطلق من المفهوم الحضاري والثقافي للهوية اليمنية، ومن المفهوم الواقعي للهوية السياسية القائمة اليوم على أسس الدولة المدنية والمواطنة وعلى تطلعات الأجيال اليمنية وتضحياتها خلال القرن الماضي في سبيل تحقيق أهم منجز يمني على الإطلاق وهو إعلان قيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو 1990 كهدف سامي للثورة اليمنية 26 سبتمبر و 14 أكتوبر و 30 نوفمبر 1967.
كما يجب أن لا يغيب عنه المفهوم السياسي للهوية اليمنية المعروف "الجمهورية اليمنية" وهو مفهوم ذو دلالة سياسية وتاريخية وجغرافية ومتعارف عليه قانونياَ ودولياً وهذا المفهوم ذو شخصية اعتبارية يتم التعامل معها في كل بلدان العالم ومنظماته وليس من السهل تغييره أو تقسيمه أو تجزيئه أو تشطيره، فالجمهورية اليمنية عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومُوقعة على العديد من الاتفاقيات الدولية ولها حضور ديبلوماسي في 55 دولة.
من جهة أخرى ، الواجب يُحتم عليه التعامل بجدية مع حق الشعب اليمني من (صعدة ) في حدود المملكة العربية السعودية إلى (المهرة) في حدود سلطنة عمان ومن أخر نقطة هناك في مياهنا الإقليمية في (ميدي) و أخر نقطة في حدودنا البرية في (الطوال) وأخر نقطة في (الوديعة) بحدودنا البرية إلى عمق المحيط الهندي حيث تقع (سقطرى) في رأس ذلك المثلث الاستراتيجي المشرف على مضيقي هرمز وباب المندب حيث تمر من أمامها كل خطوط الملاحة البحرية الدولية، علينا الثبات على قدسية حق الشعب اليمني في الحفاظ على دولته الحرة والمستقلة وذات السيادة، واستعادتها كلها بلا تجزئ أو تشطير، وإعادة هندسة وبناء مؤسساتها الوطنية وفقاً لتطلعات الشعب اليمني كله بكل مكوناته الاجتماعية وتنوعه الثقافي والحضاري.
بالإضافة إلى الانطلاق من حلم الأجيال السابقة والذي تحقق عام 1990، فالانطلاق من حلم واقعي خير من الهذيان بأحلام مازالت حبر على ورق لم تتحقق وليس فيها إجماع، فالاجماع يستلزم استفتاء الشعب اليمني كله.
*تشخيص الواقع:
إذا أردنا التعريف بالقضية اليمنية يتحتم علينا تشخيص الواقع الراهن للجمهورية اليمنية، وفقاً لمعطيات الماضي بالعودة لمراحل التاريخ المعاصر والحاضر القريب والماضي البعيد، وبناء على تطلعات الشعب اليمني للمستقبل القادم.
فبعد ثورة هزت الوجدان اليمني وفتحت الآفاق أمام الشعب وأعادته للفاعلية من جديد بعد سبات عميق منذ السبعينات، اعيقت فيما بعد بمبادرة الخليج، وهي ككل ثورات الربيع العربي التي بدأت نهاية 2010 في تونس وها هي اليوم مستمرة في لبنان والعراق، يقول أستاذنا البروفيسور برهان غليون من جامعة السوربون عن هذه الثورات: "لعل أهم ما قدمته ثورات الربيع العربي حتى الآن هو فك أسر الشعوب الطويل، وفتح أبواب التاريخ أمامها، وتشجيعها على أخذ المبادرة، والعمل على التصالح مع العالم الذي عُزلت عنه، والانخراط من جديد في العصر الذي حُرمت منه، والمشاركة الإيجابية والمبدعة في إنجازات الحضارة التي أُريد لها أن تكون مستهلكةً لها فحسب. وقد أظهرت أخيراً، للذين فقدوا الأمل، ويئسوا من التغيير، وراهنوا على خروج العرب من التاريخ، أن الاستبداد والفساد ليسا قدراً لأي شعب، وأن الأمل، الذي من دونه لا توجد كرامة ولا حرية ولا مدنية ولا حياة، لا يموت".
أُعيق الأمل في اليمن مبكراً بما سُمي بالمبادرة الخليجية، والتي فخخت المستقبل بالمحاصصة الحزبية والتي أنتهت بفكرة المحاصصة الجهوية القروية المناطقية، وهذه المحاصصة بالمناسبة هي التي أفسدت الدولة في لبنان وها هو الشعب اللبناني قد خرج ضدها. لا المحاصصة الطائفية تصنع دولة ولا المحاصصة الجهوية تصنع دولة، تصنع الدولة من وحدة الهدف ووحدة البناء والاعتماد على الكوادر المُدربة والمُؤهلة القادرة على بناء وهندسة مؤسسات الدولة وفقاً لمقتضيات العصر واحتياجات الشعب، المهنية هي من تصنع الدولة وتُرسي دعائم الحضارة وليس تقاسم المحصول ولا تقاسم الوظائف وتقاسم الغنائم والثروات بل التشارك في البناء والتشارك في لعب الأدوار الايجابية وتحمل ثقل المهام .
في الواقع لدينا شرعية أتت عبر مبادرة المحاصصة المفخخة، وتسببت في اضعاف نفسها، فالناس ينظرون إليها مغنم ووظيفة ومال واستطاعت أن تلم حولها الانتهازيين المتصارعين الذين لا هدف واحد يجمعهم، منهم من عمل من داخلها وصنع انقلاب، فانقلاب عدن صنعه بعض موظفي الشرعية و للتحقق من ذلك عودوا لوظائف قادة الانقلاب وعودوا لمن وظفهم.
وفي هذه الشرعية فساد متراكم اعاقها عن إنجاز الهدف الأساسي منها وطالت الفترة الانتقالية المزمنة بعامين فها هي تكاد تُنهي عامها الثامن، ومثلما شرعنت لانقلاب صنعاء عبر إتفاق السلم والشراكة في 2014 شرعنت لانقلاب عدن في 2019.
بالإضافة إلى انقلاب طائفي في صنعاء دعمته دول الجوار كجزء من ثوراتها المضادة ضد الربيع العربي، ودعمته إيران كذراع عسكري لها في المنطقة، ودعمته منظمات غربية بقصد ابتزاز السعودية والخليج وتنفيذاً لأجندات تطييف الصراع في الشرق الأوسط. وانقلاب مناطقي قروي جهوي في عدن دعمته الإمارات والتحالف ليكون أداة لها ولمن يقفون خلفها لإعادة تقسيم اليمن وفقاً لخرائط الاحتلال البريطاني القديمة والجديدة.
والمحصلة مأساة شعب وحروب وموت بالجملة ونازحين في الداخل ومشردين في الخارج. مع وجود أطماع خارجية في اليمن في موقعه وسواحله ومياهه وجزره ليست خافية اليوم على أحد ولم تعد نظرية مؤامرة بل صارت افعالاً تُمارس وحروب تُفرض وضحايا في تزايد مستمر.
*دور اليمنيين في الخارج
ما هو دور الجاليات في الخارج؟
- تحتاج الجاليات اليمنية في الخارج إلى التزام الجميع بتغيير السلوك الفردي من الحالة السلبية إلى الحالة الايجابية، والإلتزام بالقوانين والأنظمة واللوائح، للارتقاء إلى مستوى الحضارة، كما ان فرص التعلم التي يحصل عليها أفراد الجاليات بالإضافة إلى اكتساب السلوك الحضاري لهذه سيسهل نقل هذا النماذج الحضارية إلى اليمن.
ولذا يجب السعي رسمياً لتعليم الأطفال اليمنيين عبر مناهج الدول التي يقطنون فيها ، يجب أن يحصل الأبناء على التعليم الحديث الذي تقدمه الدول لأبنائها، مدارس الجاليات المعتمدة على المناهج اليمنية المتخلفة لن تصنع جيل مختلف متميز.
ويأتي كذلك تثقيف الكبار من المتعلمين في هذه الجاليات، فالتعليم لا يكفي للتثقيف لابد من خوض غمار البحث والقراءات الفلسفية الناضجة والجدل والحوار والاطلاع على ثقافة الأخر وفهم ما يدور في العالم وما يدور في الوطن والبحث عن حلول لكل قضاياه.
كما أن التمسك بحلم الأجيال الماضية التي تحققت في عصركم كعهد أخلاقي ووطني عالق في كل ذمة، وعدم المساومة على الجمهورية اليمنية كقدر شعب لا يحيد عنه إلا تائه. ولذا يتوجب على الجميع إعلان الولاء المطلق للشعب اليمني الحر والتمسك بدولته وحقه في استعادتها وإعادة بنائها. والوعي الكامل بأن الشرعية هي شرعية الشعب اليمني وأن الدولة هي دولة الشعب اليمني وأن الجمهورية اليمنية هي جمهورية الشعب اليمني، والعمل على مساندة ودعم هذه الشرعية وهذه الدولة وهذه الجمهورية بكل ما أوتيتم من قوة.
أنتم في الخارج عليكم التكتل مع الجهات الرسمية الواعية لوظيفتها ودورها لتكونوا أمام الدول والمنظمات والحكومات تكتل واحد، لا ينفع أن تذهبوا فريقين إلى أي محفل دولي، قصة الانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس لا تنفع أن تتكرر في أي قضية، اذهبوا للناس بصفتكم يمنيين لا قرويين، ولا مؤتمر وإصلاح، ولا زيود وشوافع ، ولا شمال وجنوب ولا جالية شمالية ولا جالية جنوبية بل جالية يمينة واحدة، كل المسميات الداخلية اتركوها للداخل فما يتم التعامل به في الخارج مختلف، لا أحد مهتم بكم ولا أحد سيهتم بكم إن لم تهتموا بوحدة صفكم وموقفكم، سيقول لكم أي عاقل تذهبون إليه اجلسوا مع بعضكم وتعالوا جميعاً لا تأتوا متفرقين.
فأنتم هنا تمثلون الأمة اليمنية ولا تمثلون أشخاصكم ولا عوائلكم ولا قراكم ولا مناطقكم .. مكان الولادة ليس أكثر من معرفة وتوثيق حالة وليس انتماء، الانتماء الحقيقي لهذا الوطن المكتوب والمرسوم على جواز السفر "الجمهورية اليمنية". وليس الانتماء للعائلة بحسب الاسم الرباعي إلا تعزيزاً للانتماء للهوية السياسية اليمنية "للجمهورية اليمنية".
لا تحدثوا الناس هنا أو أينما كنتم في الخارج عن تفاصيل القرى والحارات والمدن الصغيرة في بلدكم، حدثوهم عن اليمن الكبير، وعن انتمائكم لليمن الكبير، كونوا كباراً ولا تخذلوا بلدكم وقضيتكم ليكن هذا سلوككم وقولكم بصوت مرتفع: (يمنيون لا قرويون، يمنيون لا زيود ولا شوافع، يمنيون لا شماليون ولا جنوبيون).
*من ضمن ورقة عمل تحدثتُ فيها إلى كوكبة من الأصدقاء والزملاء والأكاديميين والباحثين والوجاهات في الندوة التوعوية التي نظمتها الجالية اليمنية واتحاد الطلبة اليمنيين في ماليزيا، يوم الأحد الماضي 1 ديسمبر 2019، في جامعة UPM.