يتزاحم الناس على مسرات تدق نوافذهم كل حين، و يبقى اليمني رهينة ذكرى تاريخ بعيد عن الواقع و آمال لم تفتح نوافذها لكل ما يدور بقلب جيل مازال يتطلع الى مستقبل يفقده بريق عينيه يوم بعد يوم. لم يعد في ذهن اليمني التجول على ضفاف نهر السين ليتذكر مرويات التحولات الفكرية، أو التجول في شوارع لندن القديمة ليستجلب الإرث الأدبي لتشارلز دكنز و هو يصف المداخن و النزعة الصناعية التي حولت البشر و الأطفال الى الآت تدر النقود على مجتمع أدرك بعد عقود طويلة أن هنالك حقوق للإنسان. نحن نعيش على تاريخ تجاوزته الدول منذ قرون، و كأننا نحتاج الى المعاناة لندرك ذواتنا في ممر تأريخي لم يعد بمقدورنا التنبأ الى أين سيفضي بنا في نهايات المطاف خصوصا مع تعدد النزعات الفكرية الراهنة.
يشكل الفكر تلك النزعة التجريدية التي تعري كل شيء لدرجة السخرية من برج إيفل باعتباره علامة للغباء البشري كونه لا يحمل أي قيمة إنسانية حقيقية. حتى الحكمة أخذت نصيبها من السخرية كونها أداة تبرير لكل شيء، و ليست رؤية نقدية يمكن البناء عليها في إيجاد حلول للفكر و السلوك. السخرية هي ما يجيده اليمني في الوقت الراهن كأدة لمقاومة اليأس ، و ليس لنضج التجربة البشرية التي تكونت عبر مراحل متعددة من الحياة في ظل نسيج متماسك أفضى الى شيء ناتج من الواقع.
مدارس الفكر إعتمدت بشكل كبير أو صاحبت، بتوصيف أدق، تحولات مجتمعية كبرى مرت بها الدول. عصر النهضة كان المحرك الأساسي لنمو الفكر و الأدب في أوربا و جاءت الثورة البخارية لتثري هذه التجربة التي و جد فيها المجتمع حالات انتقال يمكن النظر اليها من عدة جوانب و المضي معها كتجارب شخصية لكثير من المفكرين. يعيش اليمني اليوم تجارب سطحية، لم تتجذر في المجتمع كفاية ليتم تحويلها الى واقع يأخذ شكله في أوساط الناس، خصوصا الأدباء و المثقفين.
التجارب السياسية ستظل مرتبطة بالدين بشكل أو بآخر و لا يمكن النظر الى أي مكون بمعزل عن الآخر. هذا يعطل حركة الفكر الذي مازال يعتبر دخيلا على الدين و السياسة و كلا السلطتين ستلفظه في نهاية المطاف كونه عامل يناقض توجهات الأحزاب السياسية. من الصعب أن يتم تقبل أي رؤى فكرية كماهي لأن هذا سيعتبر تعطيل للفكر أيضا، و لكن يجب تبني القضايا الطارئة و إعتبارها قضايا تخص المجتمع و ليس قضايا دخيلة على العمل السياسي.
مازال العمل السياسي هو الصوت الأقوى، و القضايا الفكرية المصاحبة لم يتم احتوائها من قبل الأحزاب السياسية بالشكل الكافي. بمعنى آخر، أن الثورات و التحولات السياسية ناتجة عن وعي و تنتج وعي أيضا ، و لكن الوعي الذي تخلق لدى الشباب مازال بعيدا عن احتواء الأحزاب السياسية ليظل مبهما لدى الكثيرين خصوصا من حيث مبدأ الصواب و الخطأ.
يجب على الأحزاب خلق حواضن فكرية خصوصا في الأمور المصيرية كالدين و الهوية. لن نستطيع فصل العمل السياسي عن المعتقدات، و لكن أين تبني المعتقدات في العمل السياسي؟ و أين موقع الهوية الدينية من العمل السياسي في ظل هذا التفكك المخيف للهوية الواحدة و تعدد الأصوات في الثوابت و المسلمات. اذا لم يكن هنالك أطر للنقاش حول هذه المبادئ، فسيتخلق التفكك في الهوية و هو أشد العوامل ضررا بالأوطان.