في شمال غربي اليمن، وعلى تلة مرتفعة، في خيمة مفتوحة الأبواب تضربها الشمس صباحا والبرد مساء في ظلال وارفة، يقف النازح "علي جحر حدادي"، البالغ من العمر خمسين عاما، ويتلفت يمنة ويسرة، لعله يرى أحدا من أبنائه، لكنه لا يرى إلا هذه الحقول الممتلئة بالأشجار وبقايا آثار معركة دارت رحاها هنا بين قوات الجيش اليمني والمتمردين الحوثيين.
النازح حدادي يروي لـ"اندبندنت عربية" قصة نزوحه وهروبه من الموت إلى الموت، هو واحد من الآلاف الذين تشردوا من مناطقهم في شمال اليمن، وحوّل الحوثيون مناطقهم إلى ساحات حرب.
يقول حدادي "كنا ساكنين في أمان، في شليلة بني الحدادي، فإذا بالقصف المدفعي طال قرانا طيلة ليلة كاملة ونحن في حالة رعب وموت، لم نستطع أن نخرج إلى باب المنزل، أصبح الصبح واكتشفنا أن هناك من جيراننا من قُتل في قصف الليل، وهناك من دُمّرت سيارتهم وقُتلت مواشيهم، هدأ القصف الحوثي في الصباح، لم نصدّق أننا لا زلنا على قيد الحياة".
تهجير قسري
لم يكن ذلك القصف المدفعي الذي تلقته قرية شليلة سوى بداية للجحيم بالنسبة إلى "حدادي" وكثير ممن شهدوا تلك الليلة الصعبة.
يتابع النازح "خرجنا من منزلنا ونزحنا نحن وأهلنا باتجاه مناطق آمنة، وتركنا كل شيء خلفنا، استقر بنا الحال في مخيم شليلة، بدأنا نتكيف على الألم ووجع النزوح ومفارقة الديار والزراعة وكل شيء".
ويستدرك بالقول إنه ذات مساء وبينما هو مجتمع مع أبنائه وأقربائه يتبادلون الحديث والذكريات عن مناطقهم التي هُجّروا منها ومتى سيعودون، ومآثر الجيران الذين قتلوا بالقصف في شليلة وهم يحاولون الفرار، فإذا بـ"دوي انفجارات بالقرب من المخيم الذي نسكنه، على وقع الأصوات ذهبنا للنوم في محاولة منا للنجاة، لكن وقعت الضربة الثانية في خيمتي".
غير أن محاولة "حدادي" للنجاة بأفراد أسرته باءت بالفشل، إذ "قتل ستة من أولادي وزوجتي وصهري، وأصيبت ابنتي الناجية وفقدت يديها، لم يبقَ ممن كانوا في الخيمتين سوى أنا وواحد من أبنائي وبنتي. طفلي الرضيع توفي مع أمه وإخوانه" يقول حدادي.
لم يشعر بإصابته بشظايا متفرقة في الصدر إلا بعد استيقاظه من غيبوبة استمرت ثلاثة أيام، لكن الأسوأ كان قد حلّ بانتهاء أسرته في ذلك القصف.
"عندما صحيت من التنويم، سألت عن أولادي أين هم، لأني متأكد أنهم كانوا إلى جواري، سألت عنهم قالوا استهدي بالله، استشهد أولادك وصهرك وزوجتك، استحكم بحكم الله".
يحكي "حدادي" والألم يعتصر قلبه "بقي لي بنت فقط، تم إسعافها في مستشفى أبو عريش جنوبي السعودية، كانت أيضا في غيبوبة، وعندما استفاقت من التخدير سألوها: من أنتِ؟ قالت: أنا بنت علي جحر حدادي. اتصلوا بمستشفى الطوال الحدودي: هل لديكم جرحى في الطوال من الذين أصيبوا في قصف المخيم؟ قالوا لهم: نعم، هنا علي جحر. قالوا: فليرسل أحدا من أهله ليرافق البنت. أنا مؤمن بقدري، قالوا: ابنتك في مستشفى كذا، قلت: الحمد لله".
من مراسيم الأعراس إلى الموت
قبل النزوح القسري، كان "حدادي" يتأهب للاحتفال بزفاف ابنه، البالغ من العمر 18 عاما، غير أن تلك الأحداث المتسارعة ساقت هذه الأسرة إلى معانات متلاحقة.
"لم أتصور يوما أنه في لحظة ستغادر مني الفرحة إلى الأبد، وأنني سأغدو بلا أهل ولا أبناء ولا زوجة ولا مكان أستقر فيه، والحياة لا تطاق".
وتسبب قصف الحوثيين لقرى شليلة في مقتل العشرات من المدنيين وتهجير أكثر من 800 نسمة من مناطقهم استقر بهم الحال في مخيم شليلة بالقرب من الحدود السعودية، وتعرض المخيم مجددا لقصف حوثي راح ضحيته العشرات من النساء والأطفال.
وأطلقت منظمات محلية ودولية عربية واسعة نداءات استغاثة لنجدة السكان في المخيم.
دور سلبي
شهدت هذه المناطق تهجيرا قسريا للسكان من قبل المتمردين الحوثيين، رافقها توثيق إعلامي كبير لجريمة القصف والتهجير، ورغم كل ذلك لم تدن المنظمات الدولية ولم تشر إلى مرتكب الجريمة، الأمر الذي يراه مراقبون تماهيا مع جماعة الحوثي التي تمارس التهجير بحق اليمنيين في عدد من المناطق.
هذا واعتبرت منسقة الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في ال?من، ل?ز غراندي، الهجوم عملا منعدم الضم?ر وخرقا واضحا للقانون الإنساني الدولي.
ولم تشر في بيانها إلى مرتكب الجريمة، واكتفت بدعوتها أطراف النزاع لبذل ما بوسعهم لحما?ة المدن??ن، قائلة "إن الناس الذ?ن فروا من منازل?م إلى مواقع النازح?ن قد فقدوا الكث?ر، ول?س من الممكن تبر?ر مثل ?ذا ال?جوم على الإطلاق".
وبين الحين والآخر، يطلق الأهالي في المناطق المحررة في شمال غربي اليمن بمحافظة حجة صرخات استغاثة للمنظمات الأممية لفك الحصار الذي يفرضه الحوثيون على هذه المناطق والسماح للمواد الغذائية والدوائية بالعبور.