غالباً ما يجد المرء نازحين من مدينة الحديدة في مختلف المدن اليمنية، وكأنهم شهود على ما حلّ في المدينة الاستراتيجية الفقيرة التي دفعت ثمناً قاسياً بالحرب الدائرة في البلاد منذ سنوات، وباتت منقسمة عملياً بين جماعة الحوثيين والقوات الحكومية. في المقابل، لا يكاد يمرّ يوم من دون تسجيل خروق لوقف إطلاق النار، ما يجعل المدينة التي توقفت فيها العمليات العسكرية بفعل اتفاق استوكهولم (13 ديسمبر/كانون الأول 2018)، الميدان الأول لأي انهيار في الجهود السياسية الجارية.
وفي الذكرى الخامسة لسيطرة الحوثيين على الحديدة، بما فيها المنفذ الاستراتيجي إلى البحر الأحمر، بدأت المدينة مرحلة جديدة على صعيد جهود الأمم المتحدة للرقابة على وقف إطلاق النار في المدينة، ووصل رئيس لجنة "تنسيق إعادة الانتشار" الجديد، الجنرال الهندي أباجيهت جوها إليها للمرة الأولى، ليتولى متابعة اتفاق استوكهولم، الذي اقتصر تنفيذه حتى اليوم على خفض التصعيد العسكري.
وعلى الرغم من صمود الاتفاق، إلا أن مصادر محلية أفادت "العربي الجديد" بأن أصوات القذائف في مناطق التماس تتواصل بوتيرة متقطعة، ولا يكاد يمرّ يوم من دون سماعها، وخصوصاً في الأطراف الشرقية والجنوبية للمدينة، ويتبادل الطرفان الاتهامات بارتكاب خروق، في ظل وجود البعثة الأممية المعنية بالإشراف على الاتفاق في المدينة.
وفيما ألحقت الحرب أضراراً مباشرةً بحياة السكان في الحديدة، سواء في الآثار المباشرة للعمليات العسكرية والمعارك الميدانية، أو على الجانب الاقتصادي، في محافظة تحتل مراكز متقدمة في أعداد الفقراء حتى قبل الحرب، عطّلت المعارك أعداداً كبيرة من المنشآت والمصالح التي يعتمد عليها السكان في دخلهم الحياتي، بما في ذلك تراجع فرص الصيادين، والأضرار التي لحقت بالعديد من المصانع، وصولاً إلى الأمن الذي فقده مئات الآلاف من السكان في المديريات التي شهدت معارك مباشرة، وبعضها لا يزال ساحة متقطعة لمواجهات كرٍّ وفرٍّ حتى اليوم.
منذ اجتياح الحوثيين صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014، وإحكامهم السيطرة في الحاضرة اليمنية الأهم، كان من الطبيعي أن تكون وجهتهم الرئيسية الثانية صوب الحديدة، باعتبارها شريان الحياة بالنسبة إلى صنعاء وعدد غير قليل من المحافظات شمالي البلاد ووسطها، إذ تضمّ الحديدة الميناء الرئيسي، وهو عبارة عن ثلاثة موانئ: الحديدة، وهو الأكبر، والصليف للسفن الكبيرة، ورأس عيسى للسفن النفطية. كذلك تطلّ على البحر الأحمر من خلال عشر مديريات، في تكريس لأهميتها الأمنية بالنسبة إلى الممرات المائية الدولية، وصولاً إلى باب المندب.
وكغيرها من المحافظات، التي سقطت بعد صنعاء في أيدي الحوثيين من دون مقاومة معتبرة، وضعت الجماعة يدها على واحدة من أهم المدن ذات المداخيل العالية بسبب الميناء، ومنحتها اهتماماً استثنائياً مع بدء الحرب، التي ركز فيها التحالف السعودي الإماراتي على استهداف مختلف المنشآت العسكرية في الحديدة، فيما بقي الميناء مفتوحاً للشحنات الغذائية على نحو خاص، نتيجة لضغوط أممية مكثفة.
وبالترافق مع إعلان الحوثيين استهداف ناقلات تابعة للتحالف في البحر الأحمر، تحوّلت الحديدة منذ عام 2017، على نحو خاص، إلى محورٍ للعمليات العسكرية والجهود الدولية، خصوصاً في أعقاب تقدم القوات الحكومية وتشكيلات مدعومة من الإمارات إلى مدينة المخا، أبرز الموانئ في ساحل تعز، المطل على باب المندب.
وكانت أول مبادرة أممية بشأن الحديدة على لسان مبعوث الأمم المتحدة السابق، إسماعيل ولد الشيخ أحمد، الذي اقترح جملة ترتيبات تعطي للوضع وضعاً أمنياً خاصاً وإجراءات اقتصادية تسمح بتسليم عائدات الميناء للبنك المركزي اليمني، ليتولى بدوره دفع مرتبات الموظفين المنقطعة منذ أواخر عام 2019، التي كانت ولا تزال واحداً من أقسى أوجه الأزمة الإنسانية في اليمن. وعقب فشل مبادرة ولد الشيخ، استمر التحشيد العسكري على الجانبين، من قبل الحوثيين والشرعية، وصولاً إلى يونيو/حزيران 2018، حين أطلقت القوات الموالية للحكومة عملية للزحف نحو مدينة الحديدة، وتمكنت من الوصول إلى مديرية الدريهمي، على أطراف المدينة الشرقية بعد معارك عنيفة تكبد خلالها الجانبان خسائر كبيرة. وسقط مئات المدنيين بقصف جوي أو بري، أو نتيجة للألغام التي زرعها الحوثيون بعشرات الآلاف لمنع تقدم خصومهم.
مع بدء المبعوث الحالي مارتن غريفيث، كانت الحديدة هي المهمة المركزية، ولا تزال، وقام الأخير بجولات مكوكية مشمولاً بدعم غير محدود من مجلس الأمن الدولي، ومن بريطانيا، التي تعدّ المقرر بشأن اليمن في المجلس. ونجحت هذه الجهود، أولاً بإبرام هِدَن متقطعة، وصولاً إلى اتفاق استوكهولم، الذي كان أبرز ما خرج به، إقرار وقف إطلاق النار في الحديدة، جنباً إلى جنبٍ مع ضغوط دولية مُورست ضد الرياض، وكذلك أبوظبي، التي تصدرت دور التحالف في الساحل الغربي. ونصّ الاتفاق على وقف الطرفين العمليات العدائية، وتشكيل لجنة "إعادة الانتشار"، تتولى الإشراف على البنود الأخرى، التي من شأنها سحب الطرفين قواتهما العسكرية إلى مواقع متفق عليها.
إلا أن الاتفاق حمل ثغرات كبيرة، بقيت موضع خلافٍ حتى اليوم، إذ لم ينص بوضوح على تسمية الجهة المعنية بتولي الأمن والسلطة المحلية في الحديدة، بقدر ما حمل نصوصاً قابلة للتفسير على أكثر من زاوية، وهو ما جعل الاتفاق متعثراً إلى حد كبير، على الصعيد الخاص بنزع فتيل المعارك، وإن كان وقف العمليات العسكرية، لا يزال صامداً حتى اليوم.
في ظل اتفاق استوكهولم، تعيش الحديدة اليوم مقسومة بين المديريات التي يسيطر فيها الحوثيون، وباتت المدينة من بين الأكثر تأثراً بممارسات الحوثيين وبتغييراتهم الأمنية والعسكرية، بفعل تحويل القسم الأكبر من جهدها العسكري والأمني خلال العامين الأخيرين، صوب الحديدة. وكان من شأن فقدان الجماعة السيطرة على المدينة تغيير مسار موازين قوى السيطرة في البلاد، سواء على الجانب الاقتصادي أو العسكري، باعتبار الحديدة الميناء الأهم والأخير في أيدي الحوثيين، في ظل الاتهامات للجماعة بالاستفادة من الميناء لاستقبال دعم حلفائها في إيران.
لكن الحوثيين نفوا ذلك، معلنين ترحيبهم بتولي هيئة المراقبة الأممية التفتيش على السفن في الميناء، بناءً على آلية دولية معروفة. في المقابل، تنتشر تشكيلات من القوات الحكومية والمدعومة إماراتياً، على أجزاء واسعة من المديريات الجنوبية والشرقية بالمحافظة.
من زاوية أخرى، ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة، نزح مئات الآلاف من الحديدة، بالترافق مع العمليات العسكرية في الجديدة، أواخر عام 2018، إلا أن العديد منهم عادوا في ظل التهدئة خلال العام الحالي، مع استمرار معاناة آخرين من ويلات النزوح وانتشارهم في مختلف محافظات البلاد، إلى جانب فقدان العديد من سكان المدينة مصادر دخلهم نتيجة للأضرار التي لحقت بالحركة التجارية والصناعية وغيرها من مجالات الحياة بالمدينة.
الجدير بالذكر، أن الحديدة على الرغم من أنها في محور الاهتمام الدولي بالحل السياسي، إلا أن واقعها العسكري وموقعها الاستراتيجي يجعلان من أي تهدئة في المحافظة، مسألة حذرة، مهددة في أي لحظة، قد يعود خلالها التصعيد، وهو ما بدا جلياً خلال الأسابيع الماضية، بتنفيذ التحالف غارات للمرة الأولى منذ أكثر من عام.