بعد ساعة واحدة فقط من كلمة قائد الأركان الجزائري أحمد قايد صالح، التي شدد فيها على أنه "لا مجال للمزيد من تضييع الوقت، ويجب التطبيق الفوري للحل الدستوري المقترح المتمثل في تفعيل المواد 7 و8 و102"، أعلن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، استقالته رسميا.
ورغم أن بوتفليقة، قال الاثنين، إنه سيتسقيل من منصبه قبل نهاية ولايته الرئاسية في 28 أبريل/ نيسان الجاري، وأنه سيتخذ "قرارات هامة" قبل هذا التاريخ، إلا أن قلة من توقعوا أن استقالته ستكون هذا الثلاثاء، دون صدور أي قرارات يمكن وصفها بـ"المهمة".
وهذا ما يؤكد أن استقالة بوتفليقة، لم تأت إلا بـ"ضغط حاسم" من الجيش، بعد أن تجاهل المجلس الدستوري برئاسة الطيب بلعيز، أحد المقربين والمخلصين للرئيس المستقيل، دعوة قائد الأركان لتفعيل المادة 102 وإعلان عجز الرئيس.
وأكثر ما أثار غضب قائد الأركان، محاولة شقيق الرئيس المستقيل سعيد بوتفليقة، المناورة والتحالف مع قائد المخابرات السابق محمد مدين المدعو بالجنرال توفيق، والاستعانة بالرئيس السابق اليامين زروال، للالتفاف على مقترح قايد صالح، وتشكيل هيئة رئاسية تقود البلاد خلال المرحلة الانتقالية.
كان واضحا أن الهدف من تحالف الرئاسة مع قائد المخابرات السابق، الذي أسس على مدى سنوات طويلة "شبكة من الأتباع"، هو إقالة قايد صالح من رئاسة الأركان، مثلما تحالف الأخير مع الرئاسة في 2015، للإطاحة بالجنرال توفيق، الملقب بصانع الرؤساء، من على رأس جهاز المخابرات، الذي قاده لنحو ربع قرن.
فمعادلة الحكم في الجزائر، تتشكل من ثلاثة مراكز قوى رئيسية: الرئاسة، وقيادة الأركان، والمخابرات. وإذا تحالف اثنان سقط الثالث.
وهذا ما يفسر البيان شديد اللهجة لقايد صالح، ضد اجتماع لأطراف لم يسمها، في إشارة إلى السعيد بوتفليقة (الرئيس الفعلي للبلاد حينها) والجنرال توفيق، الذي عرض على زروال خلال لقاء به السبت الماضي، "رئاسة هيئة تسيير المرحلة الانتقالية"، بطلب من السعيد، حسب رواية زروال، الذي رفض الاقتراح.
وبين ليلة الاثنين وظهر الثلاثاء، شُنت حرب شائعات شعواء على قايد صالح، وصدر بيانان مزوران من الرئاسة يقيلانه من رئاسة الأركان، وهو ما نفته وزارة الدفاع كما أنه نفى البيان الثاني مستشار الرئيس علي بوغازي (إسلامي) الذي استُ وكان واضحا أن البيانين مزوران؛ لاعتماد الأول على مواد دستورية لا علاقة لها بإقالة قائد الأركان، ولأن الثاني مُوقع من مستشار بالرئاسة لا يملك صلاحية إقالة موظف في الرئاسة، ناهيك عن إقالة قائد الأركان نائب وزير الدفاع.
ومع ذلك فقد تم تداول البيانين على نطاق واسع في شبكات التواصل الاجتماعي، بل نشرتهما حتى وسائل إعلام أجنبية، وخرج على اليوتيوب من يؤكد أن السعيد بوتفليقة أقال فعلا قايد صالح، باستعمال ختم الرئيس، وأن الأمر ليس مجرد إشاعة.
فـ"القرارات الهامة"، التي تحدث عنها الرئيس بوتفليقة قبل تنحيه، كان من المنتظر أن تشمل إقالة قائد الأركان، خاصة أن شعارات رفعت خلال المظاهرات المليونية الأخيرة تضمنت دعوة لإقالة رئيس الأركان، على غرار "يا بوتفليقة أنت رايح رايح إدي معاك قايد صالح" (يا بوتفليقة أنت راحل راحل، خذ معك قايد صالح)، وهو ما اعتبره الأخير مناورة من الرئاسة وذراعها الأمنية لتشويه قيادة الجيش.
وهذا ما دفع رئيس الأركان في بيانه الأخير للقول بلهجة حادة: "لا يمكنني السكوت عن ما يحاك ضد هذا الشعب من مؤامرات ودسائس دنيئة من طرف عصابة امتهنت الغش والتدليس والخداع".
كانت معركة كسر عظم إلى الرمق الأخير، استعمل فيها جناح الرئاسة المناورة السياسية لكسب المزيد من الوقت للخروج بأقل الخسائر، فيما أصرت قيادة الأركان على تضييق الخناق على الرئيس بوتفليقة ومحيطه بشكل تدريجي، مع الحرص على البقاء في إطار دستوري والتماهي أكثر مع مطالب الشارع، لتفادي أخطاء التسعينيات، أو تكرار سيناريوهات دول الربيع العربي.
وهذا ما أشار إليه بيان قائد الأركان عندما تحدث عن ثلاث محطات (18 و26 و30 مارس/ آذار) اقترح خلالها تفعيل المادة 102، المتعلقة بشغور منصب الرئاسة بسبب العجز أو الاستقالة أو الوفاة، وعززها فيما بعد بالدعوة لتفعيل المادتين 7 و8 اللتين تنصان على أن السيادة للشعب بعدما رفض المجلس الدستوري الاجتماع لإثبات عجز الرئيس. عمل توقيعه في بيان الإقالة المزعوم.
وفي هذا الصدد، قال قايد صالح، في بيانه الأخير الثلاثاء: "لكن مع الأسف الشديد قوبل هذا المسعى بالتماطل والتعنت بل والتحايل من قبل أشخاص يعملون على إطالة عمر الأزمة وتعقيدها".
واتهم قائد الأركان، السعيد بوتفليقة، دون أن يسميه، بأنه "بصدد الالتفاف على مطالب (الشعب) المشروعة من خلال اعتماد مخططات مشبوهة، ترمي إلى زعزعة استقرار البلاد والدفع بها نحو الوقوع في الفراغ الدستوري"، في إشارة إلى إكمال عبد العزيز بوتفليقة ولايته الرئاسية إلى غاية 28 أبريل الجاري، ومغادرته دون أن يسلم الرئاسة إلى رئيس منتخب، خاصة أن الدستور الجزائري لا يتحدث في هذه الحالة عن تولي رئيس مجلس الأمة رئاسة الدولة لفترة انتقالية.
وهذا ما يؤكد أن قادة الجيش حسموا أمرهم نحو "إجبار" بوتفليقة على الاستقالة من رئاسة الجمهورية "فورا"، لتفادي سيناريو "الفراغ الدستوري"، أو لمزيد من مناورات محيط الرئيس، التي قد تزيد المشهد السياسي تعقيدا، وتطيل من عمر الأزمة.
وأمام إصرار الجيش، قدّم بوتفليقة استقالته، وكان لافتا أنها جاءت لتفادي الأسوأ خاصة عندما تحدث عن "تفادي ودرء المهاترات اللفظية التي تشوب، ويا للأسف، الوضع الراهن، واجتناب أن تتحول إلى انزلاقات وخيمة المغبة على ضمان حماية الأشخاص والممتلكات".