غبت عن مدينتي تعز اكثر من ثلاث سنوات ، فاتتني الكثير من المناسبات والزيارات المهمه ، حين اخبرتني صديقتي بالطريق الوحيد المتاحة للخروج او الدخول لتعز ، وعورة الطريق وضيقه ومسافته الطويلة، الاشتباكات، النقاط ، الاكثر قلقا لي هو صعود جبل الأقروض فانا بنت الجبال مصابة ب (فوبيا) الإرتفاعات ، قبل الحرب لم يكن يقلقني غير تصاعد السيارة في جبل (سماره ) فاجد النوم وإغماض عيني اكثر من ساعه حلا نافعا ، اما الان فهذا السفر ليس إلا مغامرة لا يقوم بها إلا جسور..
لكن لامفر هذه المره حضوري لا يتأجل ولايمكن الاعتذار، سيتحرك الباص من صنعاء الى تعز الساعه السابعة مساء ، لقد تغير موعد السفر ، كان السفر قبل الحرب صباحا من اي مدينة كانت واي وجهة تكون ،كان له طعم اخر ، بعد انتظار وقلق وصل الباص الثامنة مساء ،ومن سوء حظي كنت اولى الراكبات فاخذ يلف شوارع صنعاء وحواريها فهذه الراكبه في سعوان ،والاخرى بالحصبه ،وذاك الاب وزوجته في شارع خولان تاخر خروجهما ونحن ننتظر، و ختمناها في حده ثم بيت بوس ، انظر الى الساعة تقترب من المنتصف ، اربع ساعات اخذت من طاقتي الكثير ....
اخيرا انطلق الباص ، الغريب ان جميع من فيه من النساء باعمار متفاوته ، هناك راكبان في مقدمة الباص فقط ، لقد اجبرت الحرب المجتمع الذكوري ، بسفر المرأه دون مرافق ، خوفا من إعتقال الرجال في النقاط لمجرد الشك بهم ، انطلقنا واتخذنا من الليل جملاً ، والجميع في سكون ليل وضباب وكل سيارة تتبع خطوات الاخرى ، وصلنا ذمار ومطباتها، رفع سائق الباص صوت الأغاني لكنها مزعجه يطلقوا عليها ( فرق اعراس) ، وانطلق بسرعه جنونيه ، واذا نبهناه انك مسرع يقول : ان الباص يعرف طريقه ، انشغلنا بالكلام مع بعضنا ، والرجلان في المقدمه لم يتوقفا عن الكلام والمزاح يبدو من كلامهم أن احدهم من تعز والاخر من عمران ، انتهينا من جبل سماره مابين الخوف من سرعة السائق وكثرة الشاحنات الكبيره التي تسير في الليل ، بدأ القلق يزيد نحن نقترب من مدينة تعز من قبل كنا اذا وصلنا الحوبان فقد وصلنا مدينة تعز وفي 10 دقائق نحن بقلب شارع جمال ، اما الان فإذا وصلنا الحوبان امامنا ساعات قد تصل الى 8 ساعات، وهنا يبدأ الخطر وتبدأ المغامره وتبدأ رحلة أن تصل او لا تصل، تحركنا الى دمنة خدير ثم بدأنا الطريق الغير معبده ، تفاءلت وتواصلت مع اختي اخبرها انني سأصل على وجبة الفطار ، وعند اول نقطه تفتيش تتبع (الحوثي) وجدنا مركبات وباصات متوقفه ، السبب أن الوقت لم يحن للمرور ، بعد نصف ساعة سمحوا بالمرور وقد تجمعت الكثير من السيارات ، بدأنا نسير كسلاحف هربت من صياد 1000عام ببطء وارهاق وخوف ، نقطة تتبعها اخرى ، فنقاط الحوثي اذا اعطيتهم المال لاتهتم كثيرا للداخلين مايهمها هم الخارجين ، بدأنا بمناطق الشرعيه نقطه واخرى والرجل العمراني في المقدمه صمت كأنه ابتلع لسانه، بدأنا بالطريق الجبلي لكن هناك سيارات واقفه والطريق مقطوع ، الكل يسأل ماذا يجري؟ لماذا انقطع الخط ؟ استيقظت في اخر الباص الام المريضة المرهقة ،وتلك الكبيرة في السن المصابة في عمودها ،وبجانبي المرأة الشابه الحامل في شهرها الاخير سافرت كي تلد عند والدتها ،ونحن المرهقين المتعبين الكل يتسائل ، يرد السائق ان افراد النقطه وافراد من اللواء قطعوا الطريق احتجاجا على تاخر رواتبهم ، نسألهم هل توقيف المسافرين الاطفال والنساء سيوجع قادتهم اويحزنهم ؟ مضت الساعه ثم اخرى ثم ثلاث ثم اربع الكل كاتم دموعه و وجعه وجوعه وصامت ، المنطقه مقطوعة ، لم نستطع شراء الماء او تطمين اهلنا لعدم وجود اي شبكة محمول، وبعد خمس ساعات من المكابده والإنتظار افرجوا عنا و تحركنا بالطريق الضيق ، لم نكن نسير بل نتحسس الطريق ببطء ، وإذا صادف وجود سيارة خارجه نعود الى الخلف او نتعلق في منحدر كي تمر ، بعد اربع ساعات اخرى وصلنا المدينة ، لم يكن سفرا صعبا بل كان ملحمة بين الموت والحياة ، فرغم التعب البادي في وجهي إلا انني زدت حزنا على قلق من انتظرني ، اختي الساعة الرابعة وهي لم تذق وجبتي الفطار والغداء .
اما الرجل الصامت فكان مواطن من محافظة عمران الشماليه سافر الى تعز كي يستخرج جواز سفر ، كان خائفا ان يلتبس عليهم الامر اذا تكلم بلهجة المناطق الشماليه التي صارت مرتبطه بالحوثي ....
قضيت اسبوعين وكل تفكيري برحلة العوده فانا مرتبطة بالدراسة في صنعاء، فكرت احجز صالون( دفع رباعي) لاجل السرعة فالطريق وعرة جدا والامطار زادتها وعوره ، جاء الصالون فجرا الساعة الرابعة صباحا وذهب لركابه الى بيوتهم وانطلقنا، هذا وأدي الضباب وصوت الماء ينسكب والاحوال المضرجه بالخضره ، مايشغلنا عنها تفكيرنا بالأتي جبل الاقروض ونقاط التفتيش والجبايه ،وبدأنا بطلوع النقيل الوعر والسائق يتحدى قدرة سيارته ، لو انحرفت قليلا سنهوي الى الهاوية ،ووجدنا الباصات الليليه الداخلة تعز وعلامات الارهاق بادية على الجميع نعم نعم نحس بكم ...
وصلنا اول نقطة تفتيش تابعة للحوثي بدأت رحلة تفتيش شاقه وسؤالنا من اين؟ والى اين؟ ثم طلبوا البطاقات الشخصيه ذاك الشاب يعمل بالحوبان اخرجوه لانعلم لماذا؟!!
وبدأ احد افراد النقطه بتفتيش تلفونه ثم اخذه الى غرفة مجاورة للنقطه، نحن رفضنا مواصلة الطريق بدونه ، تاخر اكثر من ساعتين ، خرجنا جميعنا نتكلم مع افراد النقطه المحتجزين له، انه عامل واننا لن نتحرك الا به ، ولان الشاب لا علاقة له بالحرب ولا بالسياسة افرجوا عنه وواصلنا التحرك الى الحوبان ، هناك وجدت باص بقى له مقعد شغرته انا وتحركنا، فوصلنا مدينة إب الساعه الواحدة ، لم تعد تقطع شوارعها بدقائق لقد اصبحت مزدحمه، نزح اليها الكثيرين، اخذت مننا الساعة كاملة ، في سابق السنوات كنا نسافر بالبيجوت متراصفين بإزدحام لكن الجميع يتحدث ويناقش في السياسه والتاريخ والشأن العام المحلي والدولي ، هنا في الباص جميع الركاب صامتين يحملون جبال من الهموم من تحدثهم بهواتفهم عرفنا هذا ، وعند وصولنا بداية سماره كان الجو مغيم وقطرات مطر خفيفة وجبال شماريخها وخضرتها تدعوك لحفلة شجون وذكريات لاينقصها إلا ايوب قلت للسائق دندن لنا بأيوب. فأيوب طارش فنه اجماع لدى اليمنين ، بدأ يدندن بأيوب كل اغنيه تنقلني الى ذكرى واحيانا الى طفولتي والى امي والى قريتي ،لم احس بخوف من الصعود بل كنت اشاهد من النافذه ، نسيت قليلا مابي من مشقه وحزن لحال بلادي، وصلنا نهاية سماره وبدأت القطرات تزيد ، واغاني ايوب تتوالى ، لكن هذه المره نشيد (سيدوم الخير في ارضي مقيما) ،عند سماعه وجدت كأن قلبي مستودع متفجرات وصوت النشيد شعلة نار القيت داخله فانفجرت حسرتا ووجعا ودموعا على وطني العظيم المغدور ، احاول اخفي دموعي التي تسابق غزارة المطر ، اظن ان الجميع اصابه ما اصابني، سمعت رجل متقدم بالسن بصوت دافيء يشبه صوت جدي يفتح نافذة الباص ويقول: يالله اسقنا الغيث ... نعم الغيث يالله ، الغيث ! نعم نعم قد سمعتها من قبل ، قالها ابونا، قالها متنبينا ،قالها البرودني :
لكنها رغم بخل (الغيث) مابرحت
حبلى وفي بطنها(قحطان)او ( كرب)....