لم يُغْرِني أي شيء كي أعود من بغداد إلى صنعاء عبر جدة السعودية، حيث حضرت مهرجان المربد الشعري، إلا لقاءٌ مهم، إذ توقفت لقضاء ليلة هناك مع الشاعر اليمني، إبراهيم الحضراني، وابنته بلقيس مقابل مفاجأة أعداها لي.. كان ذلك في أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
عند وصولي إلى منزلٍ هناك وجدتُ نفسي في حضرة "الأستاذ" وهو الاسم الذي كان اليمنيون يلقبون به السياسي اليمني أحمد محمد النعمان.
ليلتَها طار النوم وتبدد التعب وحضَرت الأسئلة.. وقد تأخر الرجل الثمانيني عن موعد نومه وبقينا معاً لبعض الوقت، لكن المدهش أن حديث النعمان في لقائي معه كان أغلبه أسئلة أكثر منه حديثاً قصيراً مع رجل أتعبته السنوات، وأرهقته الأحداث والخطوب والسجون والتشرد والشتات والمرض قبل "الجمهورية" وبعدها.. كان حديثاً لماحاً عميقاً ومتعدد الدلالات والمعاني.
في سبتمبر/أيلول 1966 تعرض الرجل ومعه 64 من كبار القيادات اليمنية للحبس في السجن الحربي في مصر من قبل نظام جمال عبد الناصر إثر وصولهم إلى القاهرة بدعوة منه، وذلك بسبب معارضة هؤلاء لتدخل العسكريين المصريين في القرار اليمني بعدما أرسلهم عبدالناصر على رأس قواته إلى اليمن لنجدة ثورة عام 1962 ضد نظام الإمامة الملكي.
من حرية القول إلى "حرية البول"
وقبل الإفراج عن النعمان ورفاقه بعد نكسة يونيو/حزيران 1967 فوجئ الرجل بوزير الحربية السابق في عهد عبدالناصر، شمس بدران، يقف خلفه في طابور لاستخدام حمام السجن، التفت إليه النعمان قائلاً: "كنا نطالب في العهد الملكي في اليمن بحرية القول، وها نحن اليوم في عهد عبد الناصر نطالب بحرية البول"!
كان عبدالناصر قد استقبل النعمان في منتصف ستينيات القرن الماضي عندما زار رئيس الجمهورية اليمنية،عبدالله السلال، ورئيس حكومته النعمان مصر على رأس وفد يمني كبير العدد لم يستطع الجانب اليمني التحكم في جعله ضمن حدود بروتوكول الاجتماع المشترك، وبالكاد تم الاحتفاظ بمقاعد لوزراء الجانب المصري الذي ترأسه عبدالناصر بالطبع.
قبل بدء اللقاء التمس النعمان من عبدالناصر الإفراج عن مواطن يمني عادي سُجِن في مصر، فاستجاب عبدالناصر لإلتماس "الأخ" النعمان طالباً منه "عدم ضم السجين المفرج عنه إلى الوفد عشان ما عندناش كراسي كفاية !".
ما يلفت الإنتباه في الأمر أنه رغم ضخامة التدخل العسكري المصري على الأرض، إلّا أن ممارسات بعض قادته كانت تواجه بتحفظ ومعارضة قوية من قبل بعض القادة اليمنيين كلفهتم حياتهم أحياناً.
"لن تقنعني يا نعمان لا شعرا ولا نثراً"
كان النعمان أول رئيس وزراء يصارح شعبه والعالم بالإفلاس أو العجز المالي التام لحكومته عام 1971 بعد شهور من تحقيق مصالحة هشة برعاية السعودية أعقبت الحرب الأهلية بين الجمهوريين والملكيين من مواطني بلاده، وقد حوصر بعدم قدرة اليمن على إعادة بناء اقتصاده دون انتباه اليمنيين أنفسهم لواقعهم، وبلا مساعدة المجتمع الدولي لهم.
قبلها قال عبدالناصر للنعمان مقولته الشهيرة: "لن تقنعني يا نعمان لا شعراً ولا نثرا"ً ردا على محاولة "الأستاذ" إقناع "الزعيم العربي" بدعم حكومته الأولى، وكان سبب عدم دعم ناصر حكومة النعمان الأولى عام 1965 هو وجود عناصر موالية لحزب البعث في العراق ،كوزيرالخارجية -ورئيس الوزراء لاحقا، محسن العيني، إذ استقال النعمان بعدها
يحسب للنعمان أنه كان أول مسؤول رفيع في المجلس الجمهوري الرئاسي يقدم - بعد أسبوعين من تسميته في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967م استقالته المسببة بدعوة السلام ورفض انتهاج الحرب ثم سُحبت منه جنسيته وهو من هو، مثالاً وفضلاً في الوطنية عن كثيرين قبله، من حوله وبعده، وبأمثلة لا يتسع المجال لسردها.
عندما اقتضت نكسة يونيو/ حزيران 1967 من عبدالناصر إعادة قواته من اليمن فقد إتفق مع العاهل السعودي وقتها، الملك فيصل بن عبد العزيز، في مؤتمر اللاءات الثلاث في الخرطوم أن يرعى الأخير مصالحة بين اليمنيين شريطة إعادة القادة اليمنيين السجناء لدى القاهرة لتسلم زمام الحكم في اليمن خلفاً لحكومة المشير السلال، وهذا ما حدث بالفعل يوم الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 1967 .
كنت أعرف أنه من المتعذر خلال الدقائق المتاحة لي للجلوس معه أن أعرف كثيرا منه عن بعض القضايا التي استوقفتني آراؤه حيالها، لكن بعض أسئلته كانت كافية، سألني مثلاً كما أتذكر: كيف يمكنك المواءمة بين ضميرك كصحفي وطاعة ولي الأمر؟
بدا هذا السؤال مفتاحياً ليعرف كيف أفهم رسالة الصحافة والعمل بمبادئها، وأنا حينها أحد موظفي الإعلام الرسمي، قلت له: "إنني أتمنى لو كنت أملك القدرة على أن تكون لي صحيفتي الخاصة، لكنني أفعل جهدي مخلصاً لأجعل من أدائي في الاعلام الحكومي متناسباً مع الموجبات الاحترافية والأخلاقية للمهنة".
"الولاء قبل الكفاءة"
وفي سياق غير بعيد، أعطى النعمان تشخيصاً دقيقاً لنفسية الحاكم المستبد في بلدان العالم الثالث، إذ أوضح أن ما يهم هذا الحاكم هو ضمان "الولاء" له وبعد ذلك يمكنك أن تنتقد أداء حكومته أو لا تنتقد، أن تكون نزيهاً عفيفاً أو لا تكون، وعليك أن تسعى أولاً إلى كسب ذلك الولاء قبل أن تفكر في عمل أي شيء، اما إذا اعتقدت أنك لا تحتاج لإظهار ذلك الولاء وقررت أن تعمل وفق مبادئك واعتماداً على كفاءتك ومؤهلاتك فأنت بذلك تثير قلقه وشكوكه بشأنك وتدفعه لمراقبتك، وقد يقصيك بعيداً حتى يريح باله منك، وحتى لو لم يجد ما يزعجه فعدم سعيك لاسترضائه يمكن أن يكون سبباً كافياً بالنسبة له لاستبعادك.
لا يبدو أن النعمان كان ممن يستأثرون بالحديث عند جلوس الناس إليه، بل يسأل ويصغي جيداً للإجابات، كما أعتقد أنه كان يحرص على حصر الحديث مع أي أحد عندما يتعلق باهتمام ومجال عمل من يتحدث إليه.
وصول النعمان إلى ذلك المستوى من الحكمة والاطلاع على طبائع البشر والقدرة على تقييم شخصياتهم كان خلاصةً لتجربة حياة خصبة توزعت بين السجن والمنفى ومحاولات الاغتيال والخيانة والخذلان وانتهاك الحقوق.
كانت تلك الساعة التي قضيتها معه محطة فاصلة بين مرحلتين، مرحلة قرأت فيها كثيرا عن مواقفه وآرائه في السياسة والحكم ومرحلة اقتضت البحث أكثر في مواقف الرجل وسيرة حياته.
من المؤسف أن النعمان لم يكتب مذكراته عدا حديث مرسل سجله صوتياً لقسم الدراسات الشفهية في الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1969، وقام علي محمد زيد بكتابة مقدمته ونشره عام 2003م في كتابِ بالتعاون بين المعهد الفرنسي للآثاروالعلوم الاجتماعية بصنعاء ومركز الدراسات العربية والشرق الأوسطية بالجامعة الأميركية ببيروت.
ولكن التوقف عند بعض مراسلات النعمان ومؤلفاته المختارة وصوره الموثقة من قبل حفيده الكاتب والباحث، لطفي فؤاد نعمان، وبعض الموثوق مما كتبه عنه آخرون يُعطي فكرة شبه كاملة عن فلسفة الرجل وطريقة تفكيره وأسلوب عمله.
لقد ربطتني بعد ذلك علاقة صداقة مع عدد من أبنائه حاولت خلالها البحث أكثر في فكر الرجل وتاريخه وحياته.
بهذا القدر أو ذاك، وجدتُ نفسي لاحقاً متأثراً برؤية هذا الرجل الواسعة لواقع اليمن والمنطقة السياسي والاجتماعي، وقد أقنعتني لقاءاتي وأحاديثي الطويلة حول حياته مع بعض أبنائه بأن الرجل تمكن من تكوين بيت سياسي تبدت تجلياته أكثر في التفكير والأداء السياسي الجيد ولا سيما لدى نجله الأكبر "محمد"، ووزير الخارجية الأسبق الذي اغتيل في بيروت في يونيو 1974.
ظل محمد ولا يزال من الناحية التاريخية هو الجامع لذكاء كل من سبقه بما فيهم والده، ولمن لحق به في هذا البيت.
هذا هو الانطباع الإنساني الذي رسخ في ذهني عن النعمان بعد لقاءٍ شخصيٍ قصيرٍ وعابر، أما الحديث عنه كتاريخ فلابد أنه بحاجة لأكثر من بحث أعمق وقراءات متعددة وتأملٍ طويل.