منذ أشهر غزت إشاعة “الزئبق الأحمر” الموجود داخل “ماكينات الخياطة” القديمة من نوع سنجر والأسد، التي صنعت خلال الأعوام من 1879 وحتى 1900م، تحمل الأرقام 28 و31 و22.
الإشاعة التي تناقلتها الألسن بسرعة تفوق سرعة الريح، نجحت بالانتشار على مستوى مدن اليمن وقراها. والأغرب من ذلك هو امتدادها إلى الدول المجاورة كدول الخليج العربي والأردن.
واختلفت التفسيرات والتكهنات بشأن هذه الماكينات، الأمر الذي أثار التساؤل: لماذا الشائعة؟ ومن يقف وراءها؟
ورغم أن قيمة الماكينة القديمة الجديدة، لم تكن تتجاوز 25 ألف ريال يمني، والمستعملة 10 آلاف، باتت تنافس في أسعارها اليوم القطع الأثرية، إذ بلغ سعر الواحدة من تلك المكائن بين 7 و9 ملايين ريال.
ما أصل الحكاية؟
يرجع أصل الحكاية إلى أن ماكينات الخياطة القديمة نوع “أبو أسد”، تحتوي على مادة “الزئبق الأحمر”، وهذه المادة تعد من أغلى وأندر المواد التي تدخل في الصناعات النووية، وبدأ الاتحاد السوفييتي بإنتاج هذه المادة عام 1968م، والكيماويون المتخصصون يعرفون هذه المادة بهذا الرمز (H925 B206)، وهي مادة تبلغ كثافتها 23 جراماً في السنتيمتر المكعب.
وقد أحدثت هذه الدرجة الفائقة من الكثافة بلبلة في عقول العلماء الغربيين، إذ إنها أعلى من درجة كثافة أية مادة معروفة في العالم، بما في ذلك المعادن النقية.
ويعتبر الزئبق الأحمر من المواد النادرة جداً، وثمنه قد يصل إلى ملايين الدولارات.
مزاد علني
تقول نسيم الشرفي، صاحبة مشروع خياطة “نسمتي”، لـ”المشاهد”: “بيع المكينات غريب، كأننا في مزاد علني. فقبل حوالي شهر تواصلت معي إحدى المتدربات السابقات عندي في المركز، وسألتني عما إذا كنت أمتلك مكينة خياطة سوداء قديمة نوعية سنجر أبو أسد، بحكم أن لدي مشغل خياطة. وعرضت عليّ سعراً عالياً وصل لمليونين للمكينة الواحدة، وحين أخبرتها أني لا أملك إلا مكائن حديثة، عرضت عليّ سعاية 400 ألف ريال في حال توصلت إلى مكينة بهذه المواصفات”.
“أبو أسد” تثير خلافات أسرية
مرحلة البحث عن الماكينات كلفت البعض الكثير، وأدت بدورها إلى نشوب خلافات أسرية كبيرة.
وقالت سميرة أحمد (اسم مستعار حسب طلبها): “نشب خلاف في قريتي بمديرية العدين محافظة إب (وسط البلاد)، بين أعمامي، على مكينة جدتي المتوفاة، بل سارت القرية كلها تطلب منا بيعها لهم بأي مبلغ، لكن تطور الخلاف إلى عراك بالأيدي وانقطاع أسري بعد أن حلف جدي ألا تخرج من المنزل نهائياً”.
علي الشرعبي يملك محلاً لبيع المكائن والخردوات في باب موسى بمدينة تعز، أكد أن نساء بعن مكائنهن من نوع “سنجر أبو أسد”، من قبل سنوات، بـ5 آلاف إلى 9 آلاف ريال للمكينة، “والآن يأتين يطالبننا بإرجاع مكائنهن، وحدثت مشاكل بسبب هذا الموضوع”.
وقال الشرعبي: “بعت ما كان عندي من ماكينات، حوالي 6، قبل ما أعرف بالإشاعة، بمبالغ عادية، بحكم عدم وجود طلب عليها، وبعدها اكتشفت أن هناك أناساً باعوها بمبالغ كبيرة، ودائماً ما يتردد على محلي ناس كثير يطلبون مني مكائن سنجر أبو أسد، ولا أعتقد أن فيها ذهباً أو زئبق أحمر، كلها إشاعات كاذبة مثل حكاية الفوانيس القديمة زمان”
المكائن المطلوبة
عند سؤال عامة الناس عن كيفية معرفة المكائن المطلوبة، قال مواطنون: “يتم عرض خاتم من الذهب على مكان إبرة الخياطة، فإذا جذبته المكينة تكون هي المطلوبة. وأكد الكثير منهم أنهم وجدوا المكائن المطلوبة فعلاً ممن تنطبق عليها الشروط”.
تقمص “المشاهد” دور مشترٍ للمكينات، لمعرفة ردة فعل التجار في محلات سعيد مدهش لبيع مكينات الخياطة في باب موسى وسط مدينة تعز (جنوب غربي اليمن).
وقال أحدهم: “نحن لا نبيع، نحن نشتري فقط، ولو معك هاتيها نفحصها ونشتريها بالمبلغ اللي تطلبوه”، ولكنه تحفظ عن السبب.
وأضاف: “يوجد تجار كبار يشتروا المكائن من خارج اليمن”، في إشارة إلى إحدى الدول المجاورة عربياً.
يذكر أن الشائعة نفسها انتشرت في عدد من الدول العربية، وكان أكثرها في السعودية التي وصل سعر الماكينة إلى 10 آلاف ريال سعودي، وفي الأردن انتشرت الشائعة دون أن تنتهي إلى حقيقة تثبت وجود الزئبق الأحمر في مكائن “سنجر” القديمة.
من البائع؟
وتقول أحدث “الدلّالات” (لفظ يطلق على شخص يقوم بعرض بضاعات للبيع والشراء): “اتصلوا بي أشخاص كثير، منهم تجار ورجال أعمال، يطلبوا مني شراء مكينات سنجر “أبو أسد”، وعرضوا عليّ دلالة بـ500 إلى 800 ألف ريال يمني. صراحة جذبني الموضوع، وحاولت البحث المستمر، حتى وجدتها، وكان يأتي أشخاص مش معروفين يفحصوها بتمرير خاتم ذهب عليها، ولما يتأكدوا أنها المطلوبة يشتروها ويعطوني حق دلالتي، وأغادر وهم يتفقوا مع أصحابهن”.
وتمت عمليات البيع والشراء بسرية تامة، لأن المشترين يخافون على أنفسهم من السلطات الأمنية.
فرصة الثراء السريع
الشارع اليمني، وتحديداً من أولئك الطامحين لكسب فرصة الثراء السريع، انقسموا إلى قسمين؛ الأول تجار ورؤوس أموال تمكنوا من النزول إلى الميدان بحثاً عن المكينات، وقسم ثانٍ هم أصحاب وملاك هذه الآلات الذين لم يكونوا على علم بأنهم أثرياء طوال السنوات الماضية.
الاحتمالات الثلاثة
هارون النمر، أكد أن الانجراف وراء الإشاعات مشكلة تهدد المجتمع اليمني الذي يجهل الحقيقة.
وقال إن الإشاعة من وجهة نظره تحتمل 3 حالات؛ الحالة الأولى “ربما يملك صاحب هذه المكائن كميات كبيرة يريد تصريفها، فاخترع هذه الإشاعة، والثانية قد يكون الأمر حقيقياً، ويوجد فيها “الزئبق الأحمر” يستفاد منه في صنع الأسلحة المتطورة، وربما يكون لسلطات الأمر الواقع بصنعاء دخل فيها، ويحتاجون الزئبق لتطوير أسلحتهم.
ملاك نبيل تتحدث عن تجربتها مع الإشاعة، بالقول: “قرأت منشوراً في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، وكتبت منشوراً: “واحنا معانا”، دخل لي حسابات كثيرة، أغلبها بأسماء مستعارة عرضت عليّ بيعها بحدود 6 و7 ملايين ريال، وكانوا يشترطون أن أعمل فيديو لهم كي يعرفوا أنها المكينة المطلوبة”.