ترسم صورا تخيلية للمكان الذي ستفد إليه في الزمن القريب، فاذا ما تطابقت الصورتان صورة العقل وصورة الواقع، ابتهجت النفس وفاضت فرحا، وفي مديرية حراز فاقت صورة الواقع جمالا، فكان الفرح مضاعفا.
انطلقنا من صنعاء نحو حراز فجراً، ترافقنا باقة صوتية من مؤلفات فيروز الشتوية: "من عز النوم" "ونسم علينا الهواء" ومختارات من التراث اليمني لـــ علي الأنسي وحسين محب: "الحب والبن" و "حراز حراز والله لو ادو في المدغنج اغنج".
على سفح هضبة تاريخية لأثر شامخ، يطلُّ التاريخُ برأسه في كل مشهد، وكأنَّ العيونَ تستعيد صورة الأوائل، قرى هادئة ومسالمة، وسكانها رائقو المزاج، ومتواضعون لأبعد الحدود، وجوههم تمتلئُ بالطيبة والتصالح، وتسري في دمائهم الرحمةِ وتمزجهم بخصائصها الفوارة، منازل وحصون معلقة في الفضاء بطابع معماري يمني فريد، تجمع بين أصالة الماضي والحاضر، وسمات الريف والحضر، تعانق الضباب، وتطل من فوق السحاب على منحدراتٍ متدرجة من حقول البن، يشبه التجول فيها برحلة عبر الزمن، فيها من الجمال لدرجة تجعلك تعتقد أن الملائكة تحملق فوقها بأجنحتها أثناء طيرانها، تلك هي "قرية الحطيب".
تقع قرية الحطيب غرب العاصمة صنعاء، في منطقة شرقي حراز، التابعة لمديرية مناخه، وتبعد عن صنعاء حوالي 100 كيلو متر، ويبلغ عدد سكانها حوالي 500 نسمة، وتسكنها طائفة البهرة المتسامحة، تتميز بحصونها التاريخية وإنتاج أجود أنواع البن اليمني، بناها آل الصليحي في القرن الحادي عشر عام 439 – 459هـ، جوها دافئ ومعتدل، وترتفع فوق سطح البحر حوالي 3200 متر.
أعصابُ الناس هادئة ومسالمة، والسلام في قراهم أرواح ونوارس، السماء زرقاء ومرصعة بغيوم تهوى تعجيل غيثنا ولو بقطرات من رهام، الطرق نظيفة وتنعم بحرية المضي والعودة ولا تكاد ترى فيها مطباً ولا حفرة، يهب فيها النسيم فيداعب شعرك، وتمسك بيدك نسمة شتوية وتلهو بأصابعك كما لو كانت خصلات حسناء، الرياح والضباب تلتف حول بعضها وتنثر صوتاً موسيقياً تأملياً في الهواء كمؤلفة: "فلاي" لـ "لودوفيكو اناودي" ("Ludovico Einaudi - "Fly )، فترقص امامها سنابل الحقل كما فرقة استعراض، العصافير تغرد أغانٍ جديدة من كلمات البن، والحان الضباب، وعزف نسمات حراز الوادعة، روائح البن والزهور وأشجار الزينة المهذبة على جنبات الطرقات تنتشر في الهواء النظيف وتجد طريقها ألى أنفك، فتنموا في حشائش صدرك زهرة توليب، لتجعلك تشعر وكأنك في "آليس بلاد العجائب" عالم آخر من السحر والدهشة والألفة يشبه الحلم، ومن طبيعة الحلم جعل الأشياء تبدو حقيقية.
عند وصولنا استقبلنا الناس بالضيافة والابتسامات تتفتح من وجوههم كما تتفتح الورد في حقول البن، خصائص القرية الطيبة ظاهرة على وجوههم وفي محياهم، يعيشون ببساطة ومن غير تكلف، الإعجاب عندهم بالمنشور يكون بالربت على الكتف، والتعليق يكون بالمصافحة، والمشاركة تكون بعناق الأيدي، وليس بعد التحية والسلام الا أن يدعوك الى اللمة الطيبة، والنكتة الظريفة، شعرنا ونحن نتنقل بينهم بالبيت الشعري الشهير: يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا .. نحن الضيوف وأنت رب المنزل.
تلتهم أحاديث الناس تحليلا وتنبؤات، وقصصا عن تجاربهم ونجاحاتهم في ترك زراعة القات واستبداله بزراعته بالبن، وكيف أصبح البن يدر عليهم دخلا أفضل حتى أصبحوا يصدرون البن اليمني لمختلف دول العالم بسبب جودته وشهرته، فتحسنت أوضاعهم بشكل كبير بعد أن كان القات يكلفهم الكثير من الوقت والجهد، ويأخذ من صحتهم واموالهم دونما فائدة.. وهو كذلك بلا ريب.
تجولنا معهم في القرى وفي حقول البن منذو الصباح وحتى المغرب، شاهدنا نهضة عمرانية فريدة، واستمعنا لقصص نجاح مذهلة، وكيف يبذل أهالي شرقي حراز استعدادهم لمساعدة بعضهم وانتشال من لم يحالفه الحظ، رأينا كهولاً يعملون في حقول البن تجاوزت أعمارهم الستين، لكنهم بلياقة وخفة فهود أسيوية فتية، تحمل سواعدهم المعاول لتصبح مع الخنجر التقليدي "الجنبية" من زينة الرجال، والسر يكمن بلياقتهم هو عدم تعاطيهم للقات، أنهم يقدسون البن لدرجة تصيبك بالدهشة، كيف لا وقد غدى كنزاً عالمياً وذهباً اسوداً بعد النفط، بعد أن بات العالم يستهلك من القهوة ما يقارب 2 مليار كوب في اليوم.
لقد أصبحت قرى شرقي حراز محفزه وبارقة أمل محملة بمضامين التغيير، ومثالا يحتذى لكل مدن وقرى اليمن باستبدال شجرة القات بالبن، وأن على زارعي القات الاقتداء بهم وهو الأفضل والأسلم لهم، لاسيما والقات يستنزفهم أموال وجهود كثيرة دونما فائدة، إضافة ألى الأمراض التي تصيب المزارع والمتعاطي على حد سواء بسبب السموم والمبيدات الخطرة والمهربة التي ترش على شجرة القات، كما أنه يباع محليا فقط بعكس البن الذي يباع عالميا، وهي دعوة للمزارعين الذين ابتلوا باقتراف زراعة شجرة القات – "اقتلعوا هذه الشجرة واستبدلوها بشجرة البن تكونوا ملوك الأرض"، كفروا عما فعلتموه بغسل قلوبكم هنا لدقائق مع هذه الأيقونة اليمانية الفريدة، المجد للبن كنز اليمن العظيم.
صعدنا بعد العصر الى أعال قمم شرقي حراز، وارتشفنا هناك فناجين من أجود أنواع البن اليمني على وقع صوت أيوب: "أتأملك بين الظباء وأرعاك "، تخالطه ألحان الحقول للمزارعين بأصواتهم المجعدة وهم يحصدون ثمارهم ويقفون أمامها بشموخ كما تقف الناس لتأدية السلام الوطني، شرب فنجان قهوة يمنية في أعلى ذلك المكان يعدل المزاج بنفس القدر الذي تفعله أغانِ فيروز بل وأكثر قليلا.
جن الليل فاتجهت الرياح نحونا ومعها غيمة تغن لها، اصطادتها وتسوقها نحونا كما يسوق الراعي القطيع في الوديان البعيدة، الغيمة على وشك البكاء، ونحن من دون مضلات ولا نوحُ بيننا.
بعد الزوال تنكسر الحرارة متدحرجة من جبال شرقي حراز كصخرةٍ مقطوعةٍ من راس جبل، الضباب يلقي بكامل ثقله على الحطيب، ويجعلها تبدوا كعروسٍ فاتنة في ليل زفافها، ارتدت فستانُ عرائسي أبيض وكشفت عن ساقيها وتمددت على سريرٍ مجاور بإنتظار عريسها،
مع جمال هذا المشهد تجلى أمامنا امرؤ القيس في الجزء الخامس من معلقته وهو متوشحاً عمامته وسيفه:
إلى مثلها يرنو الحليم صبابة
إذا ما اسبكرت بين درع ومجول.
كبكر المقاناة البياض بصفرة
غذاها نمير الماء غير محلل.
غادرنا حراز والبرد يستبق ساعاته ويحل كضيف ثقيل حضر قبل موعده، عدنا بطاقة ايجابية كبيرة وقد رأينا أحفاد الصليحيين وهم يتولون مهمة الأجداد، ليتواصل التاريخ العريق ويعود اليمن كما كان أرض السعيدة والابتسامات،
عدنا ادراجنا نحو صنعاء بتفاؤل كبير وسعادة تغمرنا، يرافقنا الضباب وصوت فيروز "راجعين يا هوى".