رحيل الأديب العالمي الذي أخطأته نوبل
حين فتح ميلان كونديرا صندوقه الأسود
لؤي عبدالإله -الشرق الاوسط

في كتابه «خيانة الوصايا» الصادر عام 1993 بالفرنسية، يسعى ميلان كونديرا إلى الكشف عن المصادر الفكرية والفنية التي شاركت في تكوين أسلوبه الروائي، فبتحليله بعض الأعمال الروائية والموسيقية والفلسفية المنتمية إلى فترات زمنية مختلفة، تتضح العناصر التي استقى منها رؤيته الفنية. من بين هؤلاء يحتل بيتهوفن موقعاً متميزاً؛ إذ معه تم رفض البناءات المعمارية الجاهزة التي كان الموسيقيون قبله يتبعونها في تأليفاتهم، وأصبح البناء الموسيقي نفسه إبداعاً، وقد اتضح ذلك في سوناتاته الاثنتين والثلاثين. فقبل بيتهوفن كانت السوناتا بناءً مهلهلاً تتناوب الحركات فيه بين السرعة والبطء، بين الفرح والحزن، وكان الوقت الذي تستغرقه كل حركة متساوياً تقريباً. لكن مع بيتهوفن ظهرت الوحدة المتكاملة بين الحركات عبر اختلاف كل منها في الوقت الذي تستغرقه، وفي طبيعة الشعور الذي تثيره.

ويكشف كونديرا عما تعلمه من نيتشه على مستويين مختلفين: استثمار البناء الموسيقي في الكتابة، ورفض الأنظمة الفكرية المتحجرة، ففي الكثير من كتب نيتشه نجده «يتابع، يطور، يمفصل، يبرهن ويحسِّن أسلوبه في التأليف. القواعد لديه هي التالية: الوحدة الأولية للكتاب هي الفصل، وطوله يختلف من جملة واحدة إلى صفحات عدة. ومن دون استثناء تتكون الفصول من فقرة واحدة، وهي دائماً مرقَّمة».

هذا الأسلوب سيتبناه كونديرا في رواياته كلها؛ إذ نجده متشدداً مع الناشرين باحترام العناوين الفرعية والأرقام التي تحملها فصول رواياته. الدرس الآخر الذي تعلمه كونديرا من نيتشه هو الطابع الافتراضي للفكرة، إذ برفض نيتشه للأنظمة الفكرية فإنه قد حقق تغييرات عميقة للكيفية التي تنشأ فيها لفلسفة، «ومثلما قالت حنا آرنت، فإن نيتشه ذو تفكير تجريبي. يقول نيتشه: إن فيلسوف المستقبل بنزوعه لكسر ما هو متصلب وجاف لتقويض الأنظمة المقبولة جماهيرياً، يفتح ثغرة تسمح بالمغامرة داخل المجهول. سيكون الفيلسوف آنذاك تجريبياً وحراً في الذهاب باتجاهات مختلفة تؤول في الأخير إلى الصراع في ما بينها».

يستثمر كونديرا هذه الرؤية في رواياته؛ إذ إنه ينطلق من قناعة نيتشه القائلة بأن ليس هناك أي دور للفكرة سوى كونها تساعد على ولادة فكرة أخرى لدى المتلقّي؛ لذلك يمضي ميلان كونديرا خطوة أبعد ليضعنا أمام حقيقة كون روايته استندت إلى نظام فكري مؤقت لا يلبث أن يتبعثر تاركاً مكانه لنظام فكري مؤقت أيضاً. هنا في عالم الرواية، تصبح الأفكار نسبية ومرحة وغير حاسمة؛ لذلك تصبح الرواية بالنسبة إليه المكان الذي يخلو من إصدار الأحكام؛ إذ إن كل شيء قابل لأكثر من تأويل.

 

ابتدأ ميلان كونديرا حياته الفنية في براغ موسيقياً، لكنه تخلى عن هذه الحرفة مبكراً ليتحول صوب الرواية. جاء كتابه الأول «غراميات مرحة» في هيئة قصص قصيرة تربطها ثيمات معينة، ومع بدء الستينات أنجز كونديرا رواية «المزحة» ليعقبها بـ«الحياة في مكان آخر» و«فالس الوداع». على أثر إجهاض «ربيع براغ» سنة 1968 بأيدي القوات السوفياتية، وُضع اسم كونديرا ضمن القائمة السوداء، وفي سنة 1975 منحته فرنسا اللجوء، وهناك أصدر في أوائل الثمانينات عام 1984 أكثر رواياته شهرة: «خفة الكائن غير المحتملة».

يمكن القول إن ميلان كونديرا حقق نوعاً آخر من «الواقعية السحرية» في أغلب رواياته بكسر الحاجز بين صوت الكاتب عبر استطراداته ذات الطابع الفلسفي وصوت الراوي

من كتب كونديرا

 

• «غراميات مضحكة»، 1963

• «المزحة»، 1965 

• كتاب «الضحك والنسيان»، 1978

• «الخلود» (رواية)، 1988

• «البطء» 

• «جاك وسيده»

• «كائن لا تحتمل خفته»، 1984

• «الحياة هي في مكان آخر»

• «الجهل»

• «الهوية»

• «فالس الوداع»

• «حفلة التفاهة»

أين يكمن السحر في أعمال كونديرا؟

في كتابه «فن الرواية»، يكرس ميلان كونديرا فصلاً للروائي هرمان بروخ، وكان هذا الكاتب قد أنجز في فترة الثلاثينات ثلاثية بعنوان «المسرنمون» (السائرون نياماً)، لكن اضطراره إلى الهروب والعيش في المنفى بعد وصول النازيين إلى الحكم، فوَّت على روايته فرصة الانتشار أوروبياً وعالمياً. يتكون الجزء الثالث من الرواية من خمسة خطوط موضوعة في شكل متناوب، وهذه هي: الرواية، والقصة القصيرة، والقصيدة، والمقالة والتقرير. هذا البناء هو خرق لمبدأ أساسي كرّسته رواية القرن التاسع عشر، وهو اقتصارها على السرد الروائي.

ما يعنيه مفهوم البوليفوني في الموسيقى هو وجود لحنين أو أكثر تُعزف في آنٍ واحد وتربطها وحدة متكاملة، وكان الكثير من الروائيين قبل بروخ قد استخدموا مبدأ البوليفوني بوجود تناوب للشخصيات في المسار الروائي، ولكن في رواية «المسرنمون» أصبح للبوليفوني معنى آخر. مع ذلك لم ينجح بروخ في تحقيق الوحدة بين هذه الألحان الخمسة، حيث تظل جميعها متساوية في التأثير، بل تحول بعضها عناصر مصاحبة موسيقية ثانوية. يقول ميلان كونديرا: إن «بروخ ملهم لنا ليس فقط بما أنجزه، ولكن أيضاً بما هدف له ولم يستطع إنجازه. ويبين ما هو غير متحقق في عمل بروخ الحاجة أولاً إلى فن جديد من التعرية والتجريد الجذريين، حيث يستطيع أن يحتوي تعقيدات الوجود في العالم الحديث من دون فقدان الوضوح المعماري، وثانياً الحاجة إلى فن جديد من الطباق الروائي يخلط الفلسفة والسرد والحلم في موسيقى واحدة، ثم أخيراً الحاجة إلى فن جديد في المقال الروائي النوعي الذي لا يهدف إلى حمل رسالة قطعية، لكنه يظل افتراضياً مازحاً وتهكمياً».

 

جوائز وتكريم

 

• 1987 جائزة الدولة النمساوية للأدب الأوروبي

• 2007: جائزة الدولة التشيكية للآداب

• 2009: جائزة «سينو ديل دوكا» العالمية

• 2010: نال صفة «مواطن شرف» في مدينة برنو؛ مسقط رأسه

• 2011: جائزة «أوفيد» من اتحاد الكتاب الرومانيين والمعهد الثقافي الروماني

• 2020: جائزة «فرانز كافكا» التشيكية

إلى أي حد نجح كونديرا في تحقيق هذه الشروط الثلاثة في رواياته؟

منذ روايته الأولى التي كتبها بعد وصوله إلى فرنسا: «كتاب الضحك والنسيان» سعى إلى تكريس هذه المبادئ الثلاثة، ففي رواياته نجد تراصف الفصول المنتمية إلى أصناف أدبية مختلفة ضمن بناء روائي متماسك. فهناك الخط الروائي الذي يوصل حكاية الرواية الأصلية، ثم الاستطرادات التأملية عن الأبطال بلسان الراوي وباستخدام ضمير المتكلم، إضافة إلى فصول خيالية بحتة متحررة من مبدأ السببية، حيث يختلط الحلم بالواقع، ويمكن تسمية هذه الفصول سوريالية وفق مقولة أندريه بريتون الشهيرة: «أؤمن بتحقق انصهار هذين العنصرين ببعضهما بعضاً في المستقبل، الحلم بالواقع، رغم كونهما يبدوان متناقضين، وهذا الانصهار سيخلق شيئاً شبيهاً بالحقيقة المطلقة أو ما فوق الحقيقة». هذا المزج بين الحلم والواقع تحقق في صنف الرواية بنجاح أكبر من أي صنف أدبي آخر، على رغم عدّ بريتون الرواية صنفاً متدنياً، وهذا المبدأ هو الذي بُنيت عليه روايات الواقعية السحرية التي ينتمي إليها كتّاب كبار مثل غارسيا ماركيز، وفوينتس، وكالفينو وميلان كونديرا.

ويمضي كونديرا في روايته «الخلود» خطوة أبعد؛ إذ هو يخلط أجزاء من الماضي تدور حول غوته مع الحاضر، ثم يقحم أحداثاً فانتازية من العالم الآخر لبعض الشخصيات الخالدة، إضافة إلى إقحام نفسه مع أبطاله.

في حوار مع ميلان كونديرا نُشر ضمن كتاب «فن الرواية» يقارن الكاتب بين البناء الموسيقي وبناء روايته؛ فالباب في روايته «يقابل الحركة في العمل الموسيقي، والفصل يقابل الخانة (أو الميزور)، وهذه الخانة قد تكون قصيرة أو طويلة أو متغيرة في الطول، وهذه تقودنا إلى موضوع الإيقاع. كل جزء من رواياتي يمكن أن يحمل مدلولاً موسيقياً: موديراتوا، بريستو، أداجيو... إلخ». ويتبدل المناخ العاطفي مع تبدل الإيقاع الموسيقي. يضيف كونديرا قائلاً: «لتأليف رواية يتطلب الأمر وضع مجالات عاطفية واحداً جنب الآخر، وهذا بالنسبة إليّ هو الجانب الأكثر حذقاً في حرفة الروائي».

ما هي العناصر التي تحدد الإيقاع لكل جزء في روايات كونديرا؟ إنها مساحة الفصل وعدد الفصول في الباب الواحد، إضافة إلى مقدار الأحداث الموضوعة ضمن وحدة زمنية واحدة. وما يخلقه البناء الموسيقي لروايات كونديرا من تأثير في القارئ يشابه إلى حد ما ما تتركه السيمفونية في مشاعره، من تلون وتعارض في المشاعر عبر كل حركة.

يمكن القول إن ميلان كونديرا حقق نوعاً آخر من «الواقعية السحرية» في أغلب رواياته بكسر الحاجز بين صوت الكاتب عبر استطراداته ذات الطابع الفلسفي وصوت الراوي؛ وهذا ما سمح بمنح البناء الدرامي دفقة عاطفية أقوى وتنمية فعالة تتأتى عبر الفكرة أكثر من فعل الشخصية نفسه.

وبالتأكيد، ما ساعده على تحقيق هذا الإنجاز هو ثقافته الفلسفية الواسعة ومعرفته الاحترافية المعمّقة للموسيقى.

على يد هذا المايسترو أصبحت الرواية فناً إمتاعياً خالصاً، حيث يمتزج التاريخ والفلسفة والموسيقى وإرث الرواية الغربية في خلطة سحرية شديدة الخصوصية؛ ما تجعل القارئ (أينما كان) يشعر كأن كونديرا يتحدث معه شخصياً.

متعلقات